رحيل المشاعر
10-17-2017, 09:00 PM
,
http://www.theniles.org/get_img?ImageWidth=620&ImageHeight=300&ImageCrop=center&ImageId=595
أهالي الكرمك في انتظار زيارة نائب رئيس الجمهورية
ثلاث ساعات، هو الزمن التقديري للمسافة بين الدمازين عاصمة ولاية النيل الأزرق ومنطقة الكرمك التي تقع على الحدود مع الجارة أثيوبيا. لكن للسائقين "الشطار" الذين يجيدون فن التعامل مع "الخيران والمطبات"، نظرية أخرى، إذ إن حجم الزمن الكلي لقطع المسافة المذكورة بالنسبة لهم ساعتان فقط. تلك معلومات استقيتها خلال تجربة عايشتها يوم الأحد الماضي ونحن ثلاثة صحفيين، شخصي والزميل محمد كشان والزميل عوض الكريم الهميم. الموضوع كان رحلة إلى ولاية النيل الأزرق للوقوف على مشاريع أنشأتها وحدة تنفيذ السدود بالولاية، في إطار زيارة نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه إلى هناك.
مسح الأسلحة الصغيرة : "الجماعات المسلحة على طول حدود السودان الشرقية : نظرة عامة وتحليل"
في صباح الأحد المنصرم ومع توهج أشعة شمس ذاك اليوم لامست إطارات "سودانير" مدرج مطار الدمازين وهي تحمل على متنها عدد قليل لا يتعدى العشرين شخصا، هم مقدمة للوفد من "بعض الصحفيين والمهندسين". الجو كان معتدلا إذ يضع مؤشر الحرارة بوصلته عند الدرجة 21 درجة حسبما قال كابتن الطائرة وهو يزودنا بالمعلومات في الخارج وطائرته تصارع إسفلت المطار بحثا عن استقرار لسوء جودة "المدرج"، الذي يبدو أنه لم يجد الاهتمام الكافي لمحدودية الاستخدام. مكثنا برهة من الزمن في استراحات "السدود" بالدمازين استعدادا لركوب "الصعاب" توجها إلى منطقة الكرمك180 كليو شرق الدمازين، عندما انتصف النهار وأشعة الشمس الحارقة تهلب في الرؤوس بلا رحمة "تغلغل" بنا سائق عربة "الاستثمار" المستأجرة من قبل "السدود" (علي أبكر) في شوارع الدمازين بحثا عن الطريق إلى "الكرمك" لأن معرفته بالمكان ودهاليز الطرق قليلة لتقادم الزمن عليها، إذ كان يعمل سائق "عربة شحن كبيرة" منذ العام 2002 أي قبل أن يدخل السلام المنطقة، لذلك سألنا إن كان أحد منا يعرف الطريق إلى الكرمك أم لا؟ وبما أن ثلاثتنا "الصحفيين" لا نعلم عن تلك المناطق شيئا، فإننا سعدنا بالتحاق أحد المهندسين المنفذين لمشاريع "السدود" بالكرمك بنا ويدعى مهندس أيمن عبد الرحيم الذي تولى مهمة الكشف عن معالم الطريق. لحظات قليلة ونحن نودع الدمازين المدينة في اتجاه الكرمك، تعاركت إطارات العربة مع "الردمية" التي وضعت كأساس للطريق الرابط بين المنطقتين، ومن هنا بدأت الصعوبات.
http://www.theniles.org/images/kurmuk_arsenie_coceac.jpgا
لصورة التي Coceac Arsenie
سلسلة جبال "الأنقسنا" تحيط بالمكان، يتطاول بعضها فوق بعض تحكي بأشكالها المختلفة قدرة الخالق وعظمته في تنسيق الكون. وتتجلى قدرة الخالق في أن تلك الجبال تتميز باختلاف إشكالها ونوعيتها، فمنها ما هو ذو بنية حجرية بحتة ومنها ما هو تراب مخلوط بالحجر، وهنا فإن الجوانب الأخرى للجبال تشي بحكمة أودعها الخالق في وجود تلك الجبال، فهي ليست لتجميل المكان فقط أو "أوتاد" للأرض حسبما ذكر القرآن، ولكنها تحمل في تلك المنطقة بالتحديد فوائد كثيرة من بينها توفير مواد للبناء من "الحجر والردميات" لأن ولاية النيل الأزرق ربما يكسو "الطين" ثلاثة أرباع مساحتها باعتبارها أرضا زراعية، مما يجعل من الحركة في الخريف داخل الولاية أمرا بالغ الصعوبة.
قراءة هذا ريبورتاج عن طريق بوبويا سيمون فودو: "أطفال الشوارع في الدمازين"
كمية من الآليات تنهش تلك الجبال، بعضها "كسارات" لصناعة حجر البناء، والبعض يبحث عن تراب صالح لرصف الطرق. لكن على الرغم أن الناظر لكثرة الجبال وحجمها قد لا يراوده مجرد التفكير في أن كل جبل يقبع هناك له مالك ولا يجب الاقتراب منه إلا بإذن مالكه، وحسب مهندس أيمن عبد الرحيم فإن المستثمرين يقومون بشراء تلك الجبال من أصحابها لأخذ المواد منها، ويؤكد أن هؤلاء يدفعون أحيانا أكثر من 12 ألف جنيه في الجبل الواحد. تبدو تلك من ضمن الصعوبات التي تواجه الاستثمار في النيل الأزرق، وهو أمر كان مكان شكوى من قبل العديد من المستثمرين في أوقات مختلفة، لأن طبيعة الناس هناك مختلفة، باعتبار أن الوعي بالأشياء يبنى على التقاليد والعادات أكثر منها على الفهم القائم على الفائدة المتبادلة، فمثلا تربية الأبقار هناك تحمل طابع التباهي الاجتماعي فقط، وكثيرا ما تجد أصحابها معوزون وتحسبهم من الفقراء، لكنهم في الواقع أغنياء مع "وقف التنفيذ".
آثار الحرب على الطريق
http://www.theniles.org/images/karmak_2.jpg
تبدو آثار الحرب ظاهرة للعيان في الطريق إلى الكرمك، فأكوام الآليات الحربية ترقد في أطراف الطريق ويلاحظها المار من هناك، وهو أمر يحكي مدى بشاعة القتال والصراع المسلح بين أفراد الدولة الواحدة، على رغم مرور أكثر من 6 سنوات على توقيع السلام وإيقاف الحرب. ساعة من الزمن قضيناها والعربة تشق الطريق الترابي الذي يبدو كثعبان يتلوى بين الغابات والحشائش الكثيفة التي تفرض حظر تجوال على النظر وتجعل المار يرى فقط موطئ أقدامه دون معرفة ما تخفيه تلك الغابات بداخلها. توقف بنا السائق في منطقة "ديرنق" وقال لنا هنا تبدأ سلطة الجيش الشعبي والحركة الشعبية "طبعا هو يتحدث عن فترة ما قبل السلام"، لكن حتى بعد السلام كانت المنطقة تحت سيطرة قوات الجيش الشعبي قبل أن تعيد انتشارها في إطار تنفيذ الترتيبات الأمنية.
احتسينا بعضا من القهوة والشاي ثم أدار السائق مرة أخرى محرك السيارة وهي تنهش الأرض وتطوي المسافة طيا في اتجاه الكرمك. خلال هذه المسافة كانت أصواتنا ترتفع بالحديث والضحكات تارة وتنخفض إلى درجة الصمت تارة أخرى، لأن طبيعة الطريق تفرض علينا ذلك، وكلما كانت الأرض متساوية وحركة السيارة عادية وشعرنا بالراحة وتركنا المقابض بحثنا عن موضوع لتفكيك مفاهيمه، وتفاوتت القضايا التي ناقشناها بين سياسية واقتصادية وبعضها اجتماعي، طابعها يحمل الحسرة على تأثيرات الحرب، وكيف أن مناطق "غنية" هكذا لم يُستفد منها طيلة عمر السودان. وأحيانا يشرح لنا المهندس أيمن كلما مررنا "بخور" يعترض الطريق الصعوبات التي تواجه الشركات التي تعمل في تشييد الطريق بين الكرمك والدمازين وحجم التكلفة العالية، لأن كثرة الخيران المائية تعني الحاجة إلى بناء كبارٍ صغيرة، والمتابع للطريق يجد أن بين كل كيلومتر والآخر يتمدد خور مائي سيما في المسافة القريبة من حدود الكرمك، وهذا مربوط بغزارة الأمطار هناك مما يجعل الأمر غاية في الصعوبة، وحسب أيمن فإن حركة الشاحنات في الخريف تتوقف عن الكرمك تماما بسبب الأمطار.
اقرأ المقال من خالد سعد "الاستقطاب السياسي يُسيطر على المشورة الشعبية"
الصورة الذهنية التي تحملها مخيلتي عن "الكرمك" لا تخلو مما حدث في التسعينيات، عندما احتلتها قوات الجيش الشعبي، وإعادة الحكومة تحريرها، وعلى رغم أنني لم أكن جزءا من تلك الأحداث بحكم بعدي الجغرافي، إلا أن إعلام الإنقاذ حينها لم يترك لنا مساحة شاغرة، وكانت أخبار المعارك تنقل عبر الأثير في برامج الأجهزة الإعلامية، من ضمنها "ساحات الفداء". تملكتني الدهشة عندما ولجنا إلى داخل مدينة الكرمك التي تنام وتصحو على حضن "جبل الكرمك العاتي" فسنوات السلام الست لم تنعكس على المنطقة ولا على إنسانها. التخلف والبؤس والحاجة تمثل السمة التي ترسم حياة الناس هناك. فمساكن الناس هناك عبارة عن "قطاطي" صغيرة موضوعة بصورة غير مرتبة، الحياة بسيطة، يعمل الناس على الزراعة في الخريف، وفي الصيف ينام معظمهم ويظل يعتمد على حصاد ما جناه في الخريف... الكرمك ليست مدينة ولا تحمل صفات المدن، تبدو كقرية كبيرة، يعتمد الناس في حركتهم على "الدراجات النارية" التي تستخدم كمواصلات إلى داخل الأسواق، مثلها ومدن الجنوب الأخرى.. الزمن بين الكرمك السودانية والأثيوبية 7 دقائق بالدراجة. السوق الأثيوبية تبدو أكثر نشاطا وحيوية، إذ تتوفر فيها البضائع بصورة أكثر وأقل تكلفة، يستخدم الطرفان العملتين في البيع والشراء.
بصمات ومشاعر
http://www.theniles.org/images/karmak_3.jpg
الصحفي ادم محمد امام جبال الكرمك
الكرمك كمنطقة تقع تحت تأثير الحركة الشعبية، لا يزال إنسانها يحمل بصمات الحرب، وينعكس ذلك في المفاهيم، على رغم أن أحد المهندسين العاملين في المنطقة منذ فترة بعيدة يقول إن إنسان المنطقة الأصلي الذي ظل موجودا فيها زمن الحرب والسلام، لا يحمل أية مشاعر عدائية تجاه الآخرين وهو مسالم بطبيعته، ولكن هناك البعض الذي أتى من الغابة عائدا بعد السلام تتملكه مشاعر النظرة عبر عدسة التمرد. لا توجد في الكرمك مشاريع تنموية، فقط بعض المؤسسات التي تعمل في مجال تأهيل وتطوير المفاهيم الاجتماعية. في المنطقة مستشفى يفتقد إلى أبسط الخدمات الطبية، وفيها بعض المدارس التي أنشأتها المنظمات الأجنبية كمدرسة "غرانفيل وعباس" وغرانفيل هو الدبلوماسي الأمريكي الذي تم اغتياله بالخرطوم في العام 2008 وعباس هو سائقه الذي اغتيل معه، ويقول أهل المنطقة أن المدرسة سميت باسم الرجل عرفانا بدوره التنموي الذي لعبه في الولاية من خلال وجوده حيا بالسودان. مياه الشرب النقية تمثل عقبة أمام إنسان الكرمك، فالمنطقة تعتمد على حفائر صغيرة لا تكفي لتوفير المياه بصورة كافية.
لذلك كانت من ضمن اهتمامات الحكومة توفير مياه للشرب، فعملت وحدة توفير السدود على مشروع حصاد المياه عبر إنشاء حفائر وسدود لتوفير المياه، كما أنشأت السدود مدرستين ثانويتين للبنين والبنات بتكلفة مليار و300 مليون تبرع بها مدير وحدة السدود السابق أسامة عبد الله، وعلى رغم أن المباني تعد عادية والناظر إليها يجزم بأنها ربما لا تكلف 500 مليون، إلا أن المهندس المسؤول عن المشروع يروي بأن مواد البناء، لا سيما الطوب، يتم جلبها من مسافة 200 كيلو خارج الدمازين، ويكلف ترحيل لوري الطوب الواحد حوالي 2 ألف جنيه، بالإضافة إلى المياه التي تستخدم في البناء، وهي الأخرى يتم جلبها من مسافة 80 كيلو غرب الكرمك.
http://www.theniles.org/images/roseires_dam_tahir1978_small.jpg
الرصيرص السد -- تصوير طاهر 1978
رغم الحاجة للتنمية التي تبدو على إنسان المنطقة، إلا أن الناس هناك- حسب مسؤولين- كانوا سببا رئيسا في عدم شروع الحكومة في عمل مشاريع تنموية أو حتى خدمية أخرى، وذلك لأن المنطقة بحكم أنها عمليا تقع تحت تأثير قوات الحركة، يميل الناس هناك إلى رفض أي مشروع تنشئه الحكومة، لاعتقادهم أن ذلك يجعلهم تحت سيطرتها المباشرة، وهذا مرده، حسب البعض الذي تحدثت إليه، إلى أن سكان الكرمك لديهم النزعة تجاه تقرير مصيرهم والعيش بعيدا عن سلطة المركز. وحسب المهندس الاستشاري الذي ينفذ مشروع مدرستين تبرعت وحدة السدود بإنشائهما، فإن عملهم بالمنطقة واجه صعوبات واعتراض، بل تعرض العاملين في المشروع إلى اعتداء مما أدى إلى توقف العمل لفترة طويلة حتى تدخلت السلطات وحسمت الأمر. ويبدو أن هذه المؤشرات أظهرتها نتيجة المشورة الشعبية التي فضل من خلالها الكثيرون تقرير المصير. وهنا فإن المتابع للقضية يمكنه بسهولة تحديد دلالات الزيارة التي قام بها نائب رئيس الجمهورية إلى ولاية النيل الأزرق.
قراءة مقابلة حصرية من عائشة السماني: "مالك عقار: إن لم تقف الحركة مع مطالبي سأغادرها"
"موية مافي والناس عايشين ساي"، هكذا قال العم عوض خميس وهو منهمك في رقصة "الوازا" عندما سألته عن الأحوال، لم يزد خميس وتركني في حالي وانسحب بهدوء وهو يتمايل مع أصوات الوازا و(الوزازا) هي اله موسيقية بسيطة يصنعها أهل المنطقة يستعملونها للتعبير عن فرحتهم. الكثيرون تجمعوا في ساحة صغيرة لاستقبال نائب الرئيس، حسبما طُلب منهم، فعربة المحلية كانت تجوب شوارع الكرمك طيلة اليوم الذي سبق الزيارة لتحث المواطنين على ضرورة الخروج لاستقبال طه. وعلى رغم أن العدد الذي خرج قليل جدا لا يتعدى المئات، إلا أن زيارة طه، بغض النظر عن دلالاتها السياسية، افتتح خلالها مشاريع تبدو ذات فوائد على المدى البعيد وإنسان المنطقة في أمس الحاجة إليها، لأنها مرتبطة بالتنمية.
.
http://www.theniles.org/get_img?ImageWidth=620&ImageHeight=300&ImageCrop=center&ImageId=595
أهالي الكرمك في انتظار زيارة نائب رئيس الجمهورية
ثلاث ساعات، هو الزمن التقديري للمسافة بين الدمازين عاصمة ولاية النيل الأزرق ومنطقة الكرمك التي تقع على الحدود مع الجارة أثيوبيا. لكن للسائقين "الشطار" الذين يجيدون فن التعامل مع "الخيران والمطبات"، نظرية أخرى، إذ إن حجم الزمن الكلي لقطع المسافة المذكورة بالنسبة لهم ساعتان فقط. تلك معلومات استقيتها خلال تجربة عايشتها يوم الأحد الماضي ونحن ثلاثة صحفيين، شخصي والزميل محمد كشان والزميل عوض الكريم الهميم. الموضوع كان رحلة إلى ولاية النيل الأزرق للوقوف على مشاريع أنشأتها وحدة تنفيذ السدود بالولاية، في إطار زيارة نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه إلى هناك.
مسح الأسلحة الصغيرة : "الجماعات المسلحة على طول حدود السودان الشرقية : نظرة عامة وتحليل"
في صباح الأحد المنصرم ومع توهج أشعة شمس ذاك اليوم لامست إطارات "سودانير" مدرج مطار الدمازين وهي تحمل على متنها عدد قليل لا يتعدى العشرين شخصا، هم مقدمة للوفد من "بعض الصحفيين والمهندسين". الجو كان معتدلا إذ يضع مؤشر الحرارة بوصلته عند الدرجة 21 درجة حسبما قال كابتن الطائرة وهو يزودنا بالمعلومات في الخارج وطائرته تصارع إسفلت المطار بحثا عن استقرار لسوء جودة "المدرج"، الذي يبدو أنه لم يجد الاهتمام الكافي لمحدودية الاستخدام. مكثنا برهة من الزمن في استراحات "السدود" بالدمازين استعدادا لركوب "الصعاب" توجها إلى منطقة الكرمك180 كليو شرق الدمازين، عندما انتصف النهار وأشعة الشمس الحارقة تهلب في الرؤوس بلا رحمة "تغلغل" بنا سائق عربة "الاستثمار" المستأجرة من قبل "السدود" (علي أبكر) في شوارع الدمازين بحثا عن الطريق إلى "الكرمك" لأن معرفته بالمكان ودهاليز الطرق قليلة لتقادم الزمن عليها، إذ كان يعمل سائق "عربة شحن كبيرة" منذ العام 2002 أي قبل أن يدخل السلام المنطقة، لذلك سألنا إن كان أحد منا يعرف الطريق إلى الكرمك أم لا؟ وبما أن ثلاثتنا "الصحفيين" لا نعلم عن تلك المناطق شيئا، فإننا سعدنا بالتحاق أحد المهندسين المنفذين لمشاريع "السدود" بالكرمك بنا ويدعى مهندس أيمن عبد الرحيم الذي تولى مهمة الكشف عن معالم الطريق. لحظات قليلة ونحن نودع الدمازين المدينة في اتجاه الكرمك، تعاركت إطارات العربة مع "الردمية" التي وضعت كأساس للطريق الرابط بين المنطقتين، ومن هنا بدأت الصعوبات.
http://www.theniles.org/images/kurmuk_arsenie_coceac.jpgا
لصورة التي Coceac Arsenie
سلسلة جبال "الأنقسنا" تحيط بالمكان، يتطاول بعضها فوق بعض تحكي بأشكالها المختلفة قدرة الخالق وعظمته في تنسيق الكون. وتتجلى قدرة الخالق في أن تلك الجبال تتميز باختلاف إشكالها ونوعيتها، فمنها ما هو ذو بنية حجرية بحتة ومنها ما هو تراب مخلوط بالحجر، وهنا فإن الجوانب الأخرى للجبال تشي بحكمة أودعها الخالق في وجود تلك الجبال، فهي ليست لتجميل المكان فقط أو "أوتاد" للأرض حسبما ذكر القرآن، ولكنها تحمل في تلك المنطقة بالتحديد فوائد كثيرة من بينها توفير مواد للبناء من "الحجر والردميات" لأن ولاية النيل الأزرق ربما يكسو "الطين" ثلاثة أرباع مساحتها باعتبارها أرضا زراعية، مما يجعل من الحركة في الخريف داخل الولاية أمرا بالغ الصعوبة.
قراءة هذا ريبورتاج عن طريق بوبويا سيمون فودو: "أطفال الشوارع في الدمازين"
كمية من الآليات تنهش تلك الجبال، بعضها "كسارات" لصناعة حجر البناء، والبعض يبحث عن تراب صالح لرصف الطرق. لكن على الرغم أن الناظر لكثرة الجبال وحجمها قد لا يراوده مجرد التفكير في أن كل جبل يقبع هناك له مالك ولا يجب الاقتراب منه إلا بإذن مالكه، وحسب مهندس أيمن عبد الرحيم فإن المستثمرين يقومون بشراء تلك الجبال من أصحابها لأخذ المواد منها، ويؤكد أن هؤلاء يدفعون أحيانا أكثر من 12 ألف جنيه في الجبل الواحد. تبدو تلك من ضمن الصعوبات التي تواجه الاستثمار في النيل الأزرق، وهو أمر كان مكان شكوى من قبل العديد من المستثمرين في أوقات مختلفة، لأن طبيعة الناس هناك مختلفة، باعتبار أن الوعي بالأشياء يبنى على التقاليد والعادات أكثر منها على الفهم القائم على الفائدة المتبادلة، فمثلا تربية الأبقار هناك تحمل طابع التباهي الاجتماعي فقط، وكثيرا ما تجد أصحابها معوزون وتحسبهم من الفقراء، لكنهم في الواقع أغنياء مع "وقف التنفيذ".
آثار الحرب على الطريق
http://www.theniles.org/images/karmak_2.jpg
تبدو آثار الحرب ظاهرة للعيان في الطريق إلى الكرمك، فأكوام الآليات الحربية ترقد في أطراف الطريق ويلاحظها المار من هناك، وهو أمر يحكي مدى بشاعة القتال والصراع المسلح بين أفراد الدولة الواحدة، على رغم مرور أكثر من 6 سنوات على توقيع السلام وإيقاف الحرب. ساعة من الزمن قضيناها والعربة تشق الطريق الترابي الذي يبدو كثعبان يتلوى بين الغابات والحشائش الكثيفة التي تفرض حظر تجوال على النظر وتجعل المار يرى فقط موطئ أقدامه دون معرفة ما تخفيه تلك الغابات بداخلها. توقف بنا السائق في منطقة "ديرنق" وقال لنا هنا تبدأ سلطة الجيش الشعبي والحركة الشعبية "طبعا هو يتحدث عن فترة ما قبل السلام"، لكن حتى بعد السلام كانت المنطقة تحت سيطرة قوات الجيش الشعبي قبل أن تعيد انتشارها في إطار تنفيذ الترتيبات الأمنية.
احتسينا بعضا من القهوة والشاي ثم أدار السائق مرة أخرى محرك السيارة وهي تنهش الأرض وتطوي المسافة طيا في اتجاه الكرمك. خلال هذه المسافة كانت أصواتنا ترتفع بالحديث والضحكات تارة وتنخفض إلى درجة الصمت تارة أخرى، لأن طبيعة الطريق تفرض علينا ذلك، وكلما كانت الأرض متساوية وحركة السيارة عادية وشعرنا بالراحة وتركنا المقابض بحثنا عن موضوع لتفكيك مفاهيمه، وتفاوتت القضايا التي ناقشناها بين سياسية واقتصادية وبعضها اجتماعي، طابعها يحمل الحسرة على تأثيرات الحرب، وكيف أن مناطق "غنية" هكذا لم يُستفد منها طيلة عمر السودان. وأحيانا يشرح لنا المهندس أيمن كلما مررنا "بخور" يعترض الطريق الصعوبات التي تواجه الشركات التي تعمل في تشييد الطريق بين الكرمك والدمازين وحجم التكلفة العالية، لأن كثرة الخيران المائية تعني الحاجة إلى بناء كبارٍ صغيرة، والمتابع للطريق يجد أن بين كل كيلومتر والآخر يتمدد خور مائي سيما في المسافة القريبة من حدود الكرمك، وهذا مربوط بغزارة الأمطار هناك مما يجعل الأمر غاية في الصعوبة، وحسب أيمن فإن حركة الشاحنات في الخريف تتوقف عن الكرمك تماما بسبب الأمطار.
اقرأ المقال من خالد سعد "الاستقطاب السياسي يُسيطر على المشورة الشعبية"
الصورة الذهنية التي تحملها مخيلتي عن "الكرمك" لا تخلو مما حدث في التسعينيات، عندما احتلتها قوات الجيش الشعبي، وإعادة الحكومة تحريرها، وعلى رغم أنني لم أكن جزءا من تلك الأحداث بحكم بعدي الجغرافي، إلا أن إعلام الإنقاذ حينها لم يترك لنا مساحة شاغرة، وكانت أخبار المعارك تنقل عبر الأثير في برامج الأجهزة الإعلامية، من ضمنها "ساحات الفداء". تملكتني الدهشة عندما ولجنا إلى داخل مدينة الكرمك التي تنام وتصحو على حضن "جبل الكرمك العاتي" فسنوات السلام الست لم تنعكس على المنطقة ولا على إنسانها. التخلف والبؤس والحاجة تمثل السمة التي ترسم حياة الناس هناك. فمساكن الناس هناك عبارة عن "قطاطي" صغيرة موضوعة بصورة غير مرتبة، الحياة بسيطة، يعمل الناس على الزراعة في الخريف، وفي الصيف ينام معظمهم ويظل يعتمد على حصاد ما جناه في الخريف... الكرمك ليست مدينة ولا تحمل صفات المدن، تبدو كقرية كبيرة، يعتمد الناس في حركتهم على "الدراجات النارية" التي تستخدم كمواصلات إلى داخل الأسواق، مثلها ومدن الجنوب الأخرى.. الزمن بين الكرمك السودانية والأثيوبية 7 دقائق بالدراجة. السوق الأثيوبية تبدو أكثر نشاطا وحيوية، إذ تتوفر فيها البضائع بصورة أكثر وأقل تكلفة، يستخدم الطرفان العملتين في البيع والشراء.
بصمات ومشاعر
http://www.theniles.org/images/karmak_3.jpg
الصحفي ادم محمد امام جبال الكرمك
الكرمك كمنطقة تقع تحت تأثير الحركة الشعبية، لا يزال إنسانها يحمل بصمات الحرب، وينعكس ذلك في المفاهيم، على رغم أن أحد المهندسين العاملين في المنطقة منذ فترة بعيدة يقول إن إنسان المنطقة الأصلي الذي ظل موجودا فيها زمن الحرب والسلام، لا يحمل أية مشاعر عدائية تجاه الآخرين وهو مسالم بطبيعته، ولكن هناك البعض الذي أتى من الغابة عائدا بعد السلام تتملكه مشاعر النظرة عبر عدسة التمرد. لا توجد في الكرمك مشاريع تنموية، فقط بعض المؤسسات التي تعمل في مجال تأهيل وتطوير المفاهيم الاجتماعية. في المنطقة مستشفى يفتقد إلى أبسط الخدمات الطبية، وفيها بعض المدارس التي أنشأتها المنظمات الأجنبية كمدرسة "غرانفيل وعباس" وغرانفيل هو الدبلوماسي الأمريكي الذي تم اغتياله بالخرطوم في العام 2008 وعباس هو سائقه الذي اغتيل معه، ويقول أهل المنطقة أن المدرسة سميت باسم الرجل عرفانا بدوره التنموي الذي لعبه في الولاية من خلال وجوده حيا بالسودان. مياه الشرب النقية تمثل عقبة أمام إنسان الكرمك، فالمنطقة تعتمد على حفائر صغيرة لا تكفي لتوفير المياه بصورة كافية.
لذلك كانت من ضمن اهتمامات الحكومة توفير مياه للشرب، فعملت وحدة توفير السدود على مشروع حصاد المياه عبر إنشاء حفائر وسدود لتوفير المياه، كما أنشأت السدود مدرستين ثانويتين للبنين والبنات بتكلفة مليار و300 مليون تبرع بها مدير وحدة السدود السابق أسامة عبد الله، وعلى رغم أن المباني تعد عادية والناظر إليها يجزم بأنها ربما لا تكلف 500 مليون، إلا أن المهندس المسؤول عن المشروع يروي بأن مواد البناء، لا سيما الطوب، يتم جلبها من مسافة 200 كيلو خارج الدمازين، ويكلف ترحيل لوري الطوب الواحد حوالي 2 ألف جنيه، بالإضافة إلى المياه التي تستخدم في البناء، وهي الأخرى يتم جلبها من مسافة 80 كيلو غرب الكرمك.
http://www.theniles.org/images/roseires_dam_tahir1978_small.jpg
الرصيرص السد -- تصوير طاهر 1978
رغم الحاجة للتنمية التي تبدو على إنسان المنطقة، إلا أن الناس هناك- حسب مسؤولين- كانوا سببا رئيسا في عدم شروع الحكومة في عمل مشاريع تنموية أو حتى خدمية أخرى، وذلك لأن المنطقة بحكم أنها عمليا تقع تحت تأثير قوات الحركة، يميل الناس هناك إلى رفض أي مشروع تنشئه الحكومة، لاعتقادهم أن ذلك يجعلهم تحت سيطرتها المباشرة، وهذا مرده، حسب البعض الذي تحدثت إليه، إلى أن سكان الكرمك لديهم النزعة تجاه تقرير مصيرهم والعيش بعيدا عن سلطة المركز. وحسب المهندس الاستشاري الذي ينفذ مشروع مدرستين تبرعت وحدة السدود بإنشائهما، فإن عملهم بالمنطقة واجه صعوبات واعتراض، بل تعرض العاملين في المشروع إلى اعتداء مما أدى إلى توقف العمل لفترة طويلة حتى تدخلت السلطات وحسمت الأمر. ويبدو أن هذه المؤشرات أظهرتها نتيجة المشورة الشعبية التي فضل من خلالها الكثيرون تقرير المصير. وهنا فإن المتابع للقضية يمكنه بسهولة تحديد دلالات الزيارة التي قام بها نائب رئيس الجمهورية إلى ولاية النيل الأزرق.
قراءة مقابلة حصرية من عائشة السماني: "مالك عقار: إن لم تقف الحركة مع مطالبي سأغادرها"
"موية مافي والناس عايشين ساي"، هكذا قال العم عوض خميس وهو منهمك في رقصة "الوازا" عندما سألته عن الأحوال، لم يزد خميس وتركني في حالي وانسحب بهدوء وهو يتمايل مع أصوات الوازا و(الوزازا) هي اله موسيقية بسيطة يصنعها أهل المنطقة يستعملونها للتعبير عن فرحتهم. الكثيرون تجمعوا في ساحة صغيرة لاستقبال نائب الرئيس، حسبما طُلب منهم، فعربة المحلية كانت تجوب شوارع الكرمك طيلة اليوم الذي سبق الزيارة لتحث المواطنين على ضرورة الخروج لاستقبال طه. وعلى رغم أن العدد الذي خرج قليل جدا لا يتعدى المئات، إلا أن زيارة طه، بغض النظر عن دلالاتها السياسية، افتتح خلالها مشاريع تبدو ذات فوائد على المدى البعيد وإنسان المنطقة في أمس الحاجة إليها، لأنها مرتبطة بالتنمية.
.