شموع الحب
05-29-2022, 11:47 AM
على سرر متقابلين
من طبيعة الإنسان الحاجةُ للحب والثناء والأُنس ببني جنسه؛ ليتنفس صبحُ قلبِه، وتتبدَّد ظلمات الغربة التي تتغشَّى نفسَه، مَن منَّا لا يتحسَّس القلبَ الذي يُشبه قلبَه، والروح التي تألَفُها رُوحُه، من منا لا يكره جليدَ المجاملات والابتسامات المتحجرة، ويبحث عن لمعة العين التي تعكِس صفاءَ قلبٍ وصدقِ مودةٍ، كلُّنا نتوق إلى ذلك الإنسان الذي إن رأيتَه تجلَّت فيه روحُك، وانعكست صورتك في مرآة قلبه.
فحاجةُ النفس إلى الآخرين ضرورية، فلأجل الآخرين نُبدع ونتجمل، وتدبُّ فينا الحياة، ولربما أكَل آدمُ من الشجرة لأجل حواء، فما أحبَّ أحدٌ الخلدَ إلا لأنه مُحب أو محبوب!
ولولا أهميةُ الآخرين ما كان السجنُ الانفرادي من أشد ألوان العذاب، حتى إن بعض الدراسات أكدت أنه يقود إلى الجنون!
ولكننا نجد مُعضلة بين الناس في علاقاتهم بذلك الآخر، خاصة في زمننا، وكثيرًا ما نقول أو نسمع: (فقدتُ قدرتي على التعامل مع الناس)، ومواقع التواصل تموج بالشكوى من الخِذلان، وتتزاحم على أرفُفِ المكتبات كتبٌ لا تَحمل سوى دموعٍ مسكوبة بسبب الطعن والخيانة والفراق والوحشة ... ودورات التعليم تكاد تنعقد كلُّها حول هدف واحد هو: كيف تصنع علاقات ناجحة، وبين هذه الكثرة الكاثرة والمتنوعة، لا أجد مضمونًا حقيقيًّا ينفع الناس، جلُّها آهات صاخبة أو همسات خافتة من الطبطبة السلبية؛ أي: التي لا تقدِّم علاجًا بقدر ما تُغلق نوافذ القلب والعين عن الحقيقة!
والحقيقة أن الناس كلَّهم أحباءُ مسالمون إلا في حالين: عند الاختلاف - خاصة العقَدي - وعند الحاجة إليهم، ولا نُنكر أن هناك متعصبين يثورون لأتفه الأشياء، وهؤلاء ليسوا القاعدة!
إذًا السؤال البدهي: كيف نتجنَّب هذا الإيذاء الناتج عن التعامل مع البشر؟
الإجابة عسيرة؛ لأن من يستطيع تحقيقها نادرٌ، وتتلخص في كلمتين:
الأولى: (الاستغناء).
أسمعُك تردُّ عليَّ: كيف نعيش معزولين وقد بدأتِ حديثك بأن الحاجة للناس فطرة، وعلم الاجتماع يقول: إن الإنسان بطبعه اجتماعي، أتريدين منا أن نصنع سجنًا لأنفسنا بأنفسنا!
بالطبع لا أقصد أن نبنيَ لأنفسنا سجونًا من اختيارنا، ولكن تَخفَّفْ من العشم الشديد في الآخرين، اسكُبْ عليهم مما أعطاك الله، ولا تكلِّفهم شيئًا، ستجد منهم مَن أحبَّك بلا شرط، وبذل لك بلا طمعٍ، فتمسَّك به، لكن ابقَ على مبدأ الاكتفاء؛ لأنك ستجد منهم مَن يَحسُدك ويؤذيك، لا لشيء إلا لأنك مثالي، تسكُب عليه مِن فَيضِ قلبك ولا تنتظر منه شيئًا، سيَكرهك لأن وجودك في محيطه يجعل رائحة حقدِه تَفوح ولسان حاله يقول: أخُلِقت ملاكًا ونحن بجوارك شياطين؟
تخيَّل! ستجد مَن يُبغضك لأنك تُحسن إليه!
نعم! لا تتعجب فالناسُ كالطين الذي خُلِقوا منه، منه الطيب ومنه الخبيث الآسن، ذلك النوع الذي يجب عليك أن تتجنَّبه، ولا تُقِم له قائمة في نفسك، وللأسف اكتشافه صعبٌ، لكنَّ المحن كواشفُ، لا تقلَق، حتمًا ستَذبُل الورقة التي يواري بها سوءةَ قلبه يومًا ما وتسقط!
وقد أصَّل رسولنا مبدأَ الاستغناء في التعامل مع الناس، فقال حبيبنا صلى الله عليه وسلم: (المسائلَ كُدُوح (جروح وخدوش)، يَكْدحُ بِها الرَّجلُ وجهَه، فمن شاءَ كدحَ وجهَه، ومَن شاءَ ترَك)؛ رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني.
وفي المسند: إن أبا بكر كان يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحدٍ: ناولني إياه، ويقول: (إن خليلي صلى الله عليه وسلم أمرني ألا أسأل الناس شيئًا).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إنَّ اللهَ نظرَ في قلوبِ العبادِ، فوجدَ قلبَ محمد صلى الله عليه وسلم خيرَ قلوبِ العبادِ، فاصطفاهُ لنفسِهِ فابتعَثه برسالتِهِ، ثم نظرَ في قلوبِ العبادِ بعدَ قلبِ محمدٍ، فوجدَ قلوبَ أصحابِهِ خيرَ قلوبِ العبادِ، فجعلهم وُزَرَاءَ نبيِّهِ يُقاتلونَ على دِينِهِ، فما رأى المسلمونَ حسنًا فهوَ عندَ اللهِ حَسَنٌ، وما رَأَوا سيِّئًا فهو عندَ اللهِ سيئٌ؛ رواه أحمد وغيره.
وقد تجلَّت في سيرة الصحابة فضيلةُ الاستغناء مع أنهم أصفى الناس قلوبًا، فمنهم مَن كان إن سقط سوطه يتكلَّف النزول مِن على بعيره ليأخذَه، ولا يسأل أحدًا أن يناولَه إياه، ومنهم مَن كان يترفع عن أن يسأل خادمَه الماء!
قد يفسِّر أحدنا المسألةَ بأنها طلبُ الصدقة، ولا تعارُض، فالابتسامة صدقة؛ أي: إن إحياء الروح بالحُب كإحياء البدن بالحَب! ونحن في زمن انتفاش المادة وانحسار الروح، فحاجتنا للابتسامة أعظمُ من حاجتنا للخبز!
أنصَح بالاستغناء، ومع إقراري بالحاجة إلى الحب والمواساة، ودِفء المودة، واليد الحانية التي تَمسح الدمعة، والأخرى القوية التي تُقيل العثرة - فإنني أرى ألا تطلبَ من أحد شيئًا من ذلك، فإن لم تنبع هذه المشاعرُ من قلب صاحبها، فلا حاجة للإنسان بها، وليَستغنِ بالله - عزَّ وجلَّ - فهو الودود سيتودَّد إليك بما تحتاجه، فلن يترك قلبَك تتخطَّفه هواجسُ الوَحدة ووساوسُ الخِذلان، الغني لن يعييَه فقرُك إليه، واسعُ الملك لا ينقص من ملكه شيءٌ وإن أعطى كلًّا منا مسألته ... كلُّ منعم من بني البشر نقول له شكرًا، إلا مولاك تقول له: اللهم كما أنعمت فزِد، هو وحَده مَن يُحب حاجتك إليه ويأجُرك عليها، فوالله الذي لا إله غيره، مَن استغنى به أغناه، بل سخَّر له عبادًا من عباده ملؤوا قلبه حبًّا وثباتًا دونَ مقابلٍ، لا أُسميهم ناسًا، بل هم جندٌ من جنود الله، سلاحُهم المحبة والسكينة التي طالَما تَمنيتَ الحصولَ عليها من فقراء الأنفس الذين يحيطون بك.
الكلمة الثانية: المبالغة في وصل الأرحام!
فلا أظنُّ أن الله شدَّد عليها إلا ليُعفي القلوبَ من استجداء الحب ممن لا يَملِكه، والمواساة مما لا يعرفها، والعطف ممن امتلأ قلبه غلًّا!
أسمعك تقول: وهل أصابنا ما أصابنا إلا من الأرحام؟
أذكِّرك بقول حبيبك صلى الله عليه وسلم: (ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ، ولَكِنِ الواصِلُ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصَلَها)؛ رواه البخاري، فلا تتعامل مع أرحامك واحدة بواحدة هم أَولى بحبك ووُدِّك وأنت أَولى بقلوبهم ومحبتهم ...
فإن وجَد الإنسان أرحامه يحيطون به ويتودَّدون إليه، ويسكُبون عليه من غيث قلوبهم تَحنانًا وتعاطفًا، استطاع الاستغناء عمن يَضِنُّ عليه بالحب أيًّا كان!
وربما كان سبب ندرة الطلاق والعقوق قديمًا - علوَّ منزلة الله في القلوب، والتعلق بأسمائه وصفاته، ثم انتعاش صلة الرحم، وليكن في عقيدتنا أن السعادة ليست في الخط المستقيم من العلاقات، فلا بد من كدرٍ واختلاف يَتبعه عتابٌ، وتجديدٌ لأواصر المحبة بالهدية والكلمة العذبة، والتأسف وإظهار الندم، فكل ذلك يروي جذورَ الحب في القلب، فتُورقُ أغصانه تراحمًا وتغافلًا.
يطالعني سؤال أحدكم: ماذا عن أشغالنا ومجتمعنا أَنَهْجُرُها؟
فأقول: سنةُ الله في الأحياء المخالطة والاختلاف، وقد صبَّرنا صلى الله عليه وسلم بقوله: (المؤمن الذي يخالط الناس ويَصبر على أذاهم، أفضلُ من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)؛ رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني، ولكن مخالطة مع الاستغناء والاكتفاء كما سبق إلا عما كان ضرورة وفرضًا! فحاجتُك للناس وشدة تعلُّقك بهم، تنافس مساحةَ التعلق بالله في قلبك؛ لأنهم إن تركوك - منافرةً أو فقدًا - ستَخنق فتنة الوَحدة رُوحَك، وسوف يتسلَّط الوسواس بجيوشه على قلبك، وربما يُذهلك عن ربك..
وسوف يأتي زمنٌ قال عنه حبيبنا صلى الله عليه وسلم: "يُوشَكُ أنْ يكونَ خيرَ مالِ المسلمِ غَنَمٌ يَتَّبعُ بها شَعَفَ الجبالِ، ومواقعَ القطرِ يَفِرُّ بدينِهِ من الفتنِ"؛ رواه البخاري.
جاهِد للتعلق بربك، وبالِغ في صلة رحمك، تَخِفَّ وطأةُ الفقد عن قلبك، حتى يجمعنا الله في دارٍ لا فقدَ فيها ولا منافرة، على سُررٍ متقابلين، منزوعًا ما في قلوبنا من غلٍّ!
من طبيعة الإنسان الحاجةُ للحب والثناء والأُنس ببني جنسه؛ ليتنفس صبحُ قلبِه، وتتبدَّد ظلمات الغربة التي تتغشَّى نفسَه، مَن منَّا لا يتحسَّس القلبَ الذي يُشبه قلبَه، والروح التي تألَفُها رُوحُه، من منا لا يكره جليدَ المجاملات والابتسامات المتحجرة، ويبحث عن لمعة العين التي تعكِس صفاءَ قلبٍ وصدقِ مودةٍ، كلُّنا نتوق إلى ذلك الإنسان الذي إن رأيتَه تجلَّت فيه روحُك، وانعكست صورتك في مرآة قلبه.
فحاجةُ النفس إلى الآخرين ضرورية، فلأجل الآخرين نُبدع ونتجمل، وتدبُّ فينا الحياة، ولربما أكَل آدمُ من الشجرة لأجل حواء، فما أحبَّ أحدٌ الخلدَ إلا لأنه مُحب أو محبوب!
ولولا أهميةُ الآخرين ما كان السجنُ الانفرادي من أشد ألوان العذاب، حتى إن بعض الدراسات أكدت أنه يقود إلى الجنون!
ولكننا نجد مُعضلة بين الناس في علاقاتهم بذلك الآخر، خاصة في زمننا، وكثيرًا ما نقول أو نسمع: (فقدتُ قدرتي على التعامل مع الناس)، ومواقع التواصل تموج بالشكوى من الخِذلان، وتتزاحم على أرفُفِ المكتبات كتبٌ لا تَحمل سوى دموعٍ مسكوبة بسبب الطعن والخيانة والفراق والوحشة ... ودورات التعليم تكاد تنعقد كلُّها حول هدف واحد هو: كيف تصنع علاقات ناجحة، وبين هذه الكثرة الكاثرة والمتنوعة، لا أجد مضمونًا حقيقيًّا ينفع الناس، جلُّها آهات صاخبة أو همسات خافتة من الطبطبة السلبية؛ أي: التي لا تقدِّم علاجًا بقدر ما تُغلق نوافذ القلب والعين عن الحقيقة!
والحقيقة أن الناس كلَّهم أحباءُ مسالمون إلا في حالين: عند الاختلاف - خاصة العقَدي - وعند الحاجة إليهم، ولا نُنكر أن هناك متعصبين يثورون لأتفه الأشياء، وهؤلاء ليسوا القاعدة!
إذًا السؤال البدهي: كيف نتجنَّب هذا الإيذاء الناتج عن التعامل مع البشر؟
الإجابة عسيرة؛ لأن من يستطيع تحقيقها نادرٌ، وتتلخص في كلمتين:
الأولى: (الاستغناء).
أسمعُك تردُّ عليَّ: كيف نعيش معزولين وقد بدأتِ حديثك بأن الحاجة للناس فطرة، وعلم الاجتماع يقول: إن الإنسان بطبعه اجتماعي، أتريدين منا أن نصنع سجنًا لأنفسنا بأنفسنا!
بالطبع لا أقصد أن نبنيَ لأنفسنا سجونًا من اختيارنا، ولكن تَخفَّفْ من العشم الشديد في الآخرين، اسكُبْ عليهم مما أعطاك الله، ولا تكلِّفهم شيئًا، ستجد منهم مَن أحبَّك بلا شرط، وبذل لك بلا طمعٍ، فتمسَّك به، لكن ابقَ على مبدأ الاكتفاء؛ لأنك ستجد منهم مَن يَحسُدك ويؤذيك، لا لشيء إلا لأنك مثالي، تسكُب عليه مِن فَيضِ قلبك ولا تنتظر منه شيئًا، سيَكرهك لأن وجودك في محيطه يجعل رائحة حقدِه تَفوح ولسان حاله يقول: أخُلِقت ملاكًا ونحن بجوارك شياطين؟
تخيَّل! ستجد مَن يُبغضك لأنك تُحسن إليه!
نعم! لا تتعجب فالناسُ كالطين الذي خُلِقوا منه، منه الطيب ومنه الخبيث الآسن، ذلك النوع الذي يجب عليك أن تتجنَّبه، ولا تُقِم له قائمة في نفسك، وللأسف اكتشافه صعبٌ، لكنَّ المحن كواشفُ، لا تقلَق، حتمًا ستَذبُل الورقة التي يواري بها سوءةَ قلبه يومًا ما وتسقط!
وقد أصَّل رسولنا مبدأَ الاستغناء في التعامل مع الناس، فقال حبيبنا صلى الله عليه وسلم: (المسائلَ كُدُوح (جروح وخدوش)، يَكْدحُ بِها الرَّجلُ وجهَه، فمن شاءَ كدحَ وجهَه، ومَن شاءَ ترَك)؛ رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني.
وفي المسند: إن أبا بكر كان يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحدٍ: ناولني إياه، ويقول: (إن خليلي صلى الله عليه وسلم أمرني ألا أسأل الناس شيئًا).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إنَّ اللهَ نظرَ في قلوبِ العبادِ، فوجدَ قلبَ محمد صلى الله عليه وسلم خيرَ قلوبِ العبادِ، فاصطفاهُ لنفسِهِ فابتعَثه برسالتِهِ، ثم نظرَ في قلوبِ العبادِ بعدَ قلبِ محمدٍ، فوجدَ قلوبَ أصحابِهِ خيرَ قلوبِ العبادِ، فجعلهم وُزَرَاءَ نبيِّهِ يُقاتلونَ على دِينِهِ، فما رأى المسلمونَ حسنًا فهوَ عندَ اللهِ حَسَنٌ، وما رَأَوا سيِّئًا فهو عندَ اللهِ سيئٌ؛ رواه أحمد وغيره.
وقد تجلَّت في سيرة الصحابة فضيلةُ الاستغناء مع أنهم أصفى الناس قلوبًا، فمنهم مَن كان إن سقط سوطه يتكلَّف النزول مِن على بعيره ليأخذَه، ولا يسأل أحدًا أن يناولَه إياه، ومنهم مَن كان يترفع عن أن يسأل خادمَه الماء!
قد يفسِّر أحدنا المسألةَ بأنها طلبُ الصدقة، ولا تعارُض، فالابتسامة صدقة؛ أي: إن إحياء الروح بالحُب كإحياء البدن بالحَب! ونحن في زمن انتفاش المادة وانحسار الروح، فحاجتنا للابتسامة أعظمُ من حاجتنا للخبز!
أنصَح بالاستغناء، ومع إقراري بالحاجة إلى الحب والمواساة، ودِفء المودة، واليد الحانية التي تَمسح الدمعة، والأخرى القوية التي تُقيل العثرة - فإنني أرى ألا تطلبَ من أحد شيئًا من ذلك، فإن لم تنبع هذه المشاعرُ من قلب صاحبها، فلا حاجة للإنسان بها، وليَستغنِ بالله - عزَّ وجلَّ - فهو الودود سيتودَّد إليك بما تحتاجه، فلن يترك قلبَك تتخطَّفه هواجسُ الوَحدة ووساوسُ الخِذلان، الغني لن يعييَه فقرُك إليه، واسعُ الملك لا ينقص من ملكه شيءٌ وإن أعطى كلًّا منا مسألته ... كلُّ منعم من بني البشر نقول له شكرًا، إلا مولاك تقول له: اللهم كما أنعمت فزِد، هو وحَده مَن يُحب حاجتك إليه ويأجُرك عليها، فوالله الذي لا إله غيره، مَن استغنى به أغناه، بل سخَّر له عبادًا من عباده ملؤوا قلبه حبًّا وثباتًا دونَ مقابلٍ، لا أُسميهم ناسًا، بل هم جندٌ من جنود الله، سلاحُهم المحبة والسكينة التي طالَما تَمنيتَ الحصولَ عليها من فقراء الأنفس الذين يحيطون بك.
الكلمة الثانية: المبالغة في وصل الأرحام!
فلا أظنُّ أن الله شدَّد عليها إلا ليُعفي القلوبَ من استجداء الحب ممن لا يَملِكه، والمواساة مما لا يعرفها، والعطف ممن امتلأ قلبه غلًّا!
أسمعك تقول: وهل أصابنا ما أصابنا إلا من الأرحام؟
أذكِّرك بقول حبيبك صلى الله عليه وسلم: (ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ، ولَكِنِ الواصِلُ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصَلَها)؛ رواه البخاري، فلا تتعامل مع أرحامك واحدة بواحدة هم أَولى بحبك ووُدِّك وأنت أَولى بقلوبهم ومحبتهم ...
فإن وجَد الإنسان أرحامه يحيطون به ويتودَّدون إليه، ويسكُبون عليه من غيث قلوبهم تَحنانًا وتعاطفًا، استطاع الاستغناء عمن يَضِنُّ عليه بالحب أيًّا كان!
وربما كان سبب ندرة الطلاق والعقوق قديمًا - علوَّ منزلة الله في القلوب، والتعلق بأسمائه وصفاته، ثم انتعاش صلة الرحم، وليكن في عقيدتنا أن السعادة ليست في الخط المستقيم من العلاقات، فلا بد من كدرٍ واختلاف يَتبعه عتابٌ، وتجديدٌ لأواصر المحبة بالهدية والكلمة العذبة، والتأسف وإظهار الندم، فكل ذلك يروي جذورَ الحب في القلب، فتُورقُ أغصانه تراحمًا وتغافلًا.
يطالعني سؤال أحدكم: ماذا عن أشغالنا ومجتمعنا أَنَهْجُرُها؟
فأقول: سنةُ الله في الأحياء المخالطة والاختلاف، وقد صبَّرنا صلى الله عليه وسلم بقوله: (المؤمن الذي يخالط الناس ويَصبر على أذاهم، أفضلُ من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)؛ رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني، ولكن مخالطة مع الاستغناء والاكتفاء كما سبق إلا عما كان ضرورة وفرضًا! فحاجتُك للناس وشدة تعلُّقك بهم، تنافس مساحةَ التعلق بالله في قلبك؛ لأنهم إن تركوك - منافرةً أو فقدًا - ستَخنق فتنة الوَحدة رُوحَك، وسوف يتسلَّط الوسواس بجيوشه على قلبك، وربما يُذهلك عن ربك..
وسوف يأتي زمنٌ قال عنه حبيبنا صلى الله عليه وسلم: "يُوشَكُ أنْ يكونَ خيرَ مالِ المسلمِ غَنَمٌ يَتَّبعُ بها شَعَفَ الجبالِ، ومواقعَ القطرِ يَفِرُّ بدينِهِ من الفتنِ"؛ رواه البخاري.
جاهِد للتعلق بربك، وبالِغ في صلة رحمك، تَخِفَّ وطأةُ الفقد عن قلبك، حتى يجمعنا الله في دارٍ لا فقدَ فيها ولا منافرة، على سُررٍ متقابلين، منزوعًا ما في قلوبنا من غلٍّ!