شموع الحب
05-07-2022, 02:03 PM
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر: 1، 2].
أما بعد:
فإن من صفات العلماء الكرم والعطاء والاهتمام بتعليم الأبناء، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
كرم العلماء
الكرم والجود من صفات العلماء، وسوف نذكر بعض الصور من كرم أهل العلم:
(1) سفيان الثوري:
قال محمد بن يوسف الفريابي: "قدم سفيان الثوري ببيت المقدس فأقام ثلاثة أيام، وصلى عند باب الرحمة، وعند محراب داود عليه السلام، ورابط بعسقلان أربعين يومًا، وصحبت سفيان من عسقلان إلى المدينة، فكان يخرج النفقة، ونخرج معه جميعًا فيدفعها إلى رجل لينفق علينا، فكنا إذا وضعنا سفرتنا لم يرد أحدًا من السؤال إلا أعطاه، حتى لا يبقى شيء، فكان بعضنا إذا رآه يصنع ذلك يأخذ خبزه ويتنحى فيأكل"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم، جـ7، صـ25).
(2) أبو حنيفة
• قال قيس بن الربيع: "كان أبو حنيفة يبعث بالبضائع إلى بغداد، فيشتري بها الأمتعة ويحملها إلى الكوفة، ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائج الأشياخ المحدثين، وأقواتهم، وكسوتهم، وجميع حوائجهم، ثم يعطيهم، ويقول: لا تحمدوا إلا الله، فإني ما أعطيتكم من مالي شيئًا، ولكن من فضل الله علي فيكم وهذه أرباح بضائعكم، فإنه هو والله مما يجريه الله لكم على يدي فما في رزق الله حول لغيره"؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، جـ13، صـ362).
• كان أبو حنيفة إذا اكتسى ثوبًا جديدًا كسى بقدر ثمنه الشيوخ العلماء؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، جـ13، صـ358).
(3) الليث بن سعد:
(1) روى أبو نعيم عن سليمان بن منصور بن عمار، قال: "سمعت أبي يقول: كنت عند الليث بن سعد يومًا جالسًا، فأتته امرأة ومعها قدح، فقالت: يا أبا الحارث، إن زوجي يشتكي، وقد نعت له العسل، فقال: اذهبي إلى أبي قسيمة، فقولي له يعطيك مطرًا من عسل، فذهبت، فلم ألبث أن جاء أبو قسيمة، فسارَّهُ بشيء، لا أدري ما قال له، فرفع رأسه إليه فقال: اذهب فأعطيها مطرًا (وعاء)، إنها سألت بقدرها، وأعطيناها بقدرنا، والمطر الفرق، والفرق عشرون ومائة رطل"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم، جـ7، صـ319).
(2) قال الحارث بن مسكين: "اشترى قوم من الليث ثمرةً، فاستغلوها، فاستقالوه (أي: يرجعوا في بيعهم)، فأقالهم، ثم دعا بخريطة فيها أكياس، فأمر لهم بخمسين دينارًا، فقال له ابنه الحارث في ذلك، فقال: اللهم غفرًا، إنهم قد كانوا أملوا فيها أملًا، فأحببت أن أعوضهم من أملهم بهذا"؛ (تاريخ دمشق لابن عساكر، جـ50، صـ376).
(3) قال قتيبة بن سعيد: "رجعنا مع الليث بن سعد من الإسكندرية، ومعه ثلاث سفن، سفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه"؛ (تاريخ الإسلام للذهبي، جـ4، صـ 710).
(4) قال قتيبة بن سعيد: "كان الليث بن سعد يركب في جميع الصلوات إلى الجامع، ويتصدق كل يوم على ثلاث مائة مسكين"؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، ج8، ص 158).
(4) محمد بن إدريس الشافعي:
(1) قال الحميدي: "قدم الشافعي من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار في منديل فضرب خباءه في موضع خارجًا من مكة، فكان الناس يأتونه فيه، فما برح حتى وهبها كلها"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ9، صـ13).
♦ الدينار: يعادل تقريبًا أربعة جرامات من الذهب الخالص.
(2) قال إسماعيل الحميري: "كان محمد بن إدريس الشافعي لما أدخل على أمير المؤمنين هارون الرشيد، وناظر بشرًا المريسي فقطعه خلع هارون الرشيد على الشافعي، وأمر له بخمسين ألف درهم، فانصرف إلى البيت، وليس معه شيء، قد تصدَّق بجميع ذلك ووصل به الناس»؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ9، صـ131).
♦ الدرهم: يعادل تقريبًا: جرامين من الذهب الخالص.
(3) عبد الله بن محمد البلوي قال: "أمر الرشيد لمحمد بن إدريس الشافعي بألف دينار، فقبلها، فأمر الرشيد خادمه سراجًا باتباعه، فما زال يُفرِّقها قبضةً قبضةً حتى انتهى إلى خارج الدار، وما معه إلا قبضة واحدة، فدفعها إلى غلامه، وقال: انتفع بها. فأخبر سراج الرشيد بذاك، فقال: لهذا فرغ همه، وقوي متنه"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ9، صـ131).
(4) قال إسماعيل بن يحيى المزني: "ما رأيت رجلًا أكرم من الشافعي، خرجتُ معه ليلة عيد من المسجد، وأنا أذاكره في مسألة، حتى أتيت باب داره، فأتاه غلام بكيس، فقال: مولاي يقرئك السلام، ويقول لك: خذ هذا الكيس، فأخذه منه وأدخله في كمه، فأتاه رجل من الحلقة، فقال يا أبا عبد الله، ولدت امرأتي الساعة، ولا شيء عندي، فدفع إليه الكيس، وصعد وليس معه شيء"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ9، صـ132).
(5) محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: " كان الشافعي أسخى الناس بما يجده، فكان يمر بنا، فإن وجدني، وإلا قال: قولي لمحمد إذا جاء يأتي المنزل، فإني لست أتغدى حتى يجيء، فربما جئته فإذا قعدت معه على الغداء، قال: يا جارية، اضربي لنا فالوذجًا، فلا تزال المائدة بين يديه حتى تفرغ منه ويتغدى"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ9، صـ132).
(6) قال عمرو بن سواد السرجي: "كان الشافعي أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ9، صـ132).
(5) محمد بن إسماعيل البخاري:
قال محمد بن أبي حاتم: "كان يتصدَّق بالكثير، يأخذ بيده صاحب الحاجة من أهل الحديث، فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين، وأقل وأكثر، من غير أن يشعر بذلك أحد، وكان لا يفارقه كيسه، ورأيته ناول رجلًا مرارًا صرةً فيها ثلاث مائة درهم- وذلك أن الرجل أخبرني بعدد ما كان فيها من بعد- فأراد أن يدعو، فقال له أبو عبد الله: ارفق، واشتغل بحديث آخر كيلا يعلم بذلك أحد"؛ (سير أعلام النبلاء، جـ12، صـ450).
(6) عبد الرحمن الأوزاعي:
"كان الأوزاعي من أكرم الناس وأسخاهم، وكان له في بيت المال على الخلفاء إقطاع، فصار إليه من بني أمية، وبني العباس نحو من سبعين ألف دينار، فلم يقتن منها شيئًا، ولا ترك يوم مات سوى سبعة دنانير، كان ينفقها في سبيل الله وفي الفقراء"؛ (البداية والنهاية لابن كثير، جـ10، صـ120).
(7) عبد الله بن المبارك:
(1) قال حبان بن موسى: "عوتب ابن المبارك فيما يفرق من المال في البلدان دون بلده، قال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث، فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم، احتاجوا، فإن تركناهم، ضاع علمهم، وإن أعناهم، بثوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، جـ11، صـ388).
(2) قال المسيب بن واضح: "أرسل ابن المبارك إلى أبي بكر بن عياش أربعة آلاف درهم، فقال: سد بها فتنة القوم عنك"؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ8، صـ410).
(3) قال نعيم بن حماد: "قدم ابن المبارك أيلة (اسم مكان) على يونس بن يزيد، ومعه غلام مفرغ لعمل الفالوذج (نوع من الحلوى)، يتخذه للمحدثين"؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ8، صـ410).
(4) قال علي بن الحسن بن شقيق:"كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج، اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم، فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ثم يكتري لهم، ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم، ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي، وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها؟ فيقول: كذا وكذا. ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم، قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فيُجصِّص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام، عمل لهم وليمةً وكساهم، فإذا أكلوا وسروا، دعا بالصندوق، ففتحه، ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه"؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، جـ11، صـ388).
الاهتمام بتعليم الأبناء:
كان السلف الصالح يحرصون على تعليم أبنائهم:
(1) روى الحاكم عن أنس بن مالك أنه كان يقول لبنيه: "قيدوا العلم بالكتاب"؛ (مستدرك الحاكم، جـ1، صـ106).
(2) قال شرحبيل أبو سعد: "دعا الحسن بن علي بنيه وبني أخيه، فقال: يا بني وبني أخي، إنكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يرويه فليكتبه، وليضعه في بيته"؛ (تقييد العلم للخطيب البغدادي، صـ91).
(3) قال الحسين بن علي لابنه: "يا بني، إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الصمت، ولا تقطع على أحد حديثًا وإن طال حتى يمسك"؛ (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، جـ1، صـ:521).
(4) أوصى لقمان الحكيم ابنه فقال: "يا بني جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله تعالى يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الله الأرض الميتة بوابل السماء"؛ (موطأ مالك، جـ 2، صـ 1002).
وقال لقمان لابنه: "يا بني، لا تتعلم ما لا تعلم حتى تعمل بما تعلم"؛ (اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي، صـ187).
(5) قال مالك بن أنس: "كانت أمي تعممني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه"؛ (ترتيب المدارك للقاضي عياض، جـ1، صـ 130).
(6) قال إبراهيم بن أدهم: "قال لي أبي: يا بني، اطلب الحديث، فكلما سمعت حديثًا، وحفظته، فلك درهم، فطلبت الحديث على هذا"؛ (شرف أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي، صـ 66).
(7) قال إبراهيم بن حبيب بن الشهيد: "قال لي أبي: يا بني، إيْتِ الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إلي لك من كثير من الحديث"؛ (الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي، جـ1، صـ80).
(8) قال أبو بكر بن المطوعي: اختلفت إلى أبي عبد الله ثنتي عشرة سنةً، وهو يقرأ (المسند) على أولاده، فما كتبت عنه حديثًا واحدًا، إنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 11، صـ:316).
(9) قال معتمر بن سليمان: "كتب إليَّ أبي وأنا بالكوفة: أن اشترِ الكتب، واكتب العلم؛ فإن المال يذهب والعلم يبقى"؛ (تقييد العلم للخطيب البغدادي، صـ112).
(10) قالت أم سفيان الثوري لسفيان: "يا بني، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي، وقالت له: يا بني إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في مشيك وحلمك ووقارك، فإن لم يزدك فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك"؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ2، صـ100).
(11) قال إبراهيم الحربي: "كانت عنق محمد بن عبد الرحمن الأوقص داخلة في بدنه، وكان منكباه خارجين، فقالت له أمه: يا بني، لا تكون في مجلس قوم إلا كنت المضحوك منه، المسخور به، فعليك بطلب العلم؛ فإنه يرفعك، فطلب العلم واجتهد فيه حتى تولَّى قضاء مكة عشرين سنة، مرت به امرأة، وهو يقول: اللهم اعتق رقبتي من النار، فقالت له: يا ابن أخي، وأي رقبة لك؟!"؛ (تاريخ دمشق، لابن عساكر، جـ54، صـ 106).
(12) قال محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: " كنت يتيمًا في حجر أمي فدفعتني في الكتاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، فكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع الحديث أو المسألة فأحفظها، ولم يكن عند أمي ما تعطيني أن أشتري به قراطيس قط، فكنت إذا رأيت عَظْمًا يلوح آخذه فأكتب فيه، فإذا امتلأ طرحته في جرة كانت لنا قديمًا"؛ (جامع بيان العلم، لابن عبد البر، جـ1، صـ 413).
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكرام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد:
فإن من صفات العلماء الكرم والعطاء والاهتمام بتعليم الأبناء، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
كرم العلماء
الكرم والجود من صفات العلماء، وسوف نذكر بعض الصور من كرم أهل العلم:
(1) سفيان الثوري:
قال محمد بن يوسف الفريابي: "قدم سفيان الثوري ببيت المقدس فأقام ثلاثة أيام، وصلى عند باب الرحمة، وعند محراب داود عليه السلام، ورابط بعسقلان أربعين يومًا، وصحبت سفيان من عسقلان إلى المدينة، فكان يخرج النفقة، ونخرج معه جميعًا فيدفعها إلى رجل لينفق علينا، فكنا إذا وضعنا سفرتنا لم يرد أحدًا من السؤال إلا أعطاه، حتى لا يبقى شيء، فكان بعضنا إذا رآه يصنع ذلك يأخذ خبزه ويتنحى فيأكل"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم، جـ7، صـ25).
(2) أبو حنيفة
• قال قيس بن الربيع: "كان أبو حنيفة يبعث بالبضائع إلى بغداد، فيشتري بها الأمتعة ويحملها إلى الكوفة، ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائج الأشياخ المحدثين، وأقواتهم، وكسوتهم، وجميع حوائجهم، ثم يعطيهم، ويقول: لا تحمدوا إلا الله، فإني ما أعطيتكم من مالي شيئًا، ولكن من فضل الله علي فيكم وهذه أرباح بضائعكم، فإنه هو والله مما يجريه الله لكم على يدي فما في رزق الله حول لغيره"؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، جـ13، صـ362).
• كان أبو حنيفة إذا اكتسى ثوبًا جديدًا كسى بقدر ثمنه الشيوخ العلماء؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، جـ13، صـ358).
(3) الليث بن سعد:
(1) روى أبو نعيم عن سليمان بن منصور بن عمار، قال: "سمعت أبي يقول: كنت عند الليث بن سعد يومًا جالسًا، فأتته امرأة ومعها قدح، فقالت: يا أبا الحارث، إن زوجي يشتكي، وقد نعت له العسل، فقال: اذهبي إلى أبي قسيمة، فقولي له يعطيك مطرًا من عسل، فذهبت، فلم ألبث أن جاء أبو قسيمة، فسارَّهُ بشيء، لا أدري ما قال له، فرفع رأسه إليه فقال: اذهب فأعطيها مطرًا (وعاء)، إنها سألت بقدرها، وأعطيناها بقدرنا، والمطر الفرق، والفرق عشرون ومائة رطل"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم، جـ7، صـ319).
(2) قال الحارث بن مسكين: "اشترى قوم من الليث ثمرةً، فاستغلوها، فاستقالوه (أي: يرجعوا في بيعهم)، فأقالهم، ثم دعا بخريطة فيها أكياس، فأمر لهم بخمسين دينارًا، فقال له ابنه الحارث في ذلك، فقال: اللهم غفرًا، إنهم قد كانوا أملوا فيها أملًا، فأحببت أن أعوضهم من أملهم بهذا"؛ (تاريخ دمشق لابن عساكر، جـ50، صـ376).
(3) قال قتيبة بن سعيد: "رجعنا مع الليث بن سعد من الإسكندرية، ومعه ثلاث سفن، سفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه"؛ (تاريخ الإسلام للذهبي، جـ4، صـ 710).
(4) قال قتيبة بن سعيد: "كان الليث بن سعد يركب في جميع الصلوات إلى الجامع، ويتصدق كل يوم على ثلاث مائة مسكين"؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، ج8، ص 158).
(4) محمد بن إدريس الشافعي:
(1) قال الحميدي: "قدم الشافعي من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار في منديل فضرب خباءه في موضع خارجًا من مكة، فكان الناس يأتونه فيه، فما برح حتى وهبها كلها"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ9، صـ13).
♦ الدينار: يعادل تقريبًا أربعة جرامات من الذهب الخالص.
(2) قال إسماعيل الحميري: "كان محمد بن إدريس الشافعي لما أدخل على أمير المؤمنين هارون الرشيد، وناظر بشرًا المريسي فقطعه خلع هارون الرشيد على الشافعي، وأمر له بخمسين ألف درهم، فانصرف إلى البيت، وليس معه شيء، قد تصدَّق بجميع ذلك ووصل به الناس»؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ9، صـ131).
♦ الدرهم: يعادل تقريبًا: جرامين من الذهب الخالص.
(3) عبد الله بن محمد البلوي قال: "أمر الرشيد لمحمد بن إدريس الشافعي بألف دينار، فقبلها، فأمر الرشيد خادمه سراجًا باتباعه، فما زال يُفرِّقها قبضةً قبضةً حتى انتهى إلى خارج الدار، وما معه إلا قبضة واحدة، فدفعها إلى غلامه، وقال: انتفع بها. فأخبر سراج الرشيد بذاك، فقال: لهذا فرغ همه، وقوي متنه"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ9، صـ131).
(4) قال إسماعيل بن يحيى المزني: "ما رأيت رجلًا أكرم من الشافعي، خرجتُ معه ليلة عيد من المسجد، وأنا أذاكره في مسألة، حتى أتيت باب داره، فأتاه غلام بكيس، فقال: مولاي يقرئك السلام، ويقول لك: خذ هذا الكيس، فأخذه منه وأدخله في كمه، فأتاه رجل من الحلقة، فقال يا أبا عبد الله، ولدت امرأتي الساعة، ولا شيء عندي، فدفع إليه الكيس، وصعد وليس معه شيء"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ9، صـ132).
(5) محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: " كان الشافعي أسخى الناس بما يجده، فكان يمر بنا، فإن وجدني، وإلا قال: قولي لمحمد إذا جاء يأتي المنزل، فإني لست أتغدى حتى يجيء، فربما جئته فإذا قعدت معه على الغداء، قال: يا جارية، اضربي لنا فالوذجًا، فلا تزال المائدة بين يديه حتى تفرغ منه ويتغدى"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ9، صـ132).
(6) قال عمرو بن سواد السرجي: "كان الشافعي أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، جـ9، صـ132).
(5) محمد بن إسماعيل البخاري:
قال محمد بن أبي حاتم: "كان يتصدَّق بالكثير، يأخذ بيده صاحب الحاجة من أهل الحديث، فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين، وأقل وأكثر، من غير أن يشعر بذلك أحد، وكان لا يفارقه كيسه، ورأيته ناول رجلًا مرارًا صرةً فيها ثلاث مائة درهم- وذلك أن الرجل أخبرني بعدد ما كان فيها من بعد- فأراد أن يدعو، فقال له أبو عبد الله: ارفق، واشتغل بحديث آخر كيلا يعلم بذلك أحد"؛ (سير أعلام النبلاء، جـ12، صـ450).
(6) عبد الرحمن الأوزاعي:
"كان الأوزاعي من أكرم الناس وأسخاهم، وكان له في بيت المال على الخلفاء إقطاع، فصار إليه من بني أمية، وبني العباس نحو من سبعين ألف دينار، فلم يقتن منها شيئًا، ولا ترك يوم مات سوى سبعة دنانير، كان ينفقها في سبيل الله وفي الفقراء"؛ (البداية والنهاية لابن كثير، جـ10، صـ120).
(7) عبد الله بن المبارك:
(1) قال حبان بن موسى: "عوتب ابن المبارك فيما يفرق من المال في البلدان دون بلده، قال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث، فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم، احتاجوا، فإن تركناهم، ضاع علمهم، وإن أعناهم، بثوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، جـ11، صـ388).
(2) قال المسيب بن واضح: "أرسل ابن المبارك إلى أبي بكر بن عياش أربعة آلاف درهم، فقال: سد بها فتنة القوم عنك"؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ8، صـ410).
(3) قال نعيم بن حماد: "قدم ابن المبارك أيلة (اسم مكان) على يونس بن يزيد، ومعه غلام مفرغ لعمل الفالوذج (نوع من الحلوى)، يتخذه للمحدثين"؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ8، صـ410).
(4) قال علي بن الحسن بن شقيق:"كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج، اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم، فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ثم يكتري لهم، ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم، ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي، وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها؟ فيقول: كذا وكذا. ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم، قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فيُجصِّص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام، عمل لهم وليمةً وكساهم، فإذا أكلوا وسروا، دعا بالصندوق، ففتحه، ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه"؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، جـ11، صـ388).
الاهتمام بتعليم الأبناء:
كان السلف الصالح يحرصون على تعليم أبنائهم:
(1) روى الحاكم عن أنس بن مالك أنه كان يقول لبنيه: "قيدوا العلم بالكتاب"؛ (مستدرك الحاكم، جـ1، صـ106).
(2) قال شرحبيل أبو سعد: "دعا الحسن بن علي بنيه وبني أخيه، فقال: يا بني وبني أخي، إنكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يرويه فليكتبه، وليضعه في بيته"؛ (تقييد العلم للخطيب البغدادي، صـ91).
(3) قال الحسين بن علي لابنه: "يا بني، إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الصمت، ولا تقطع على أحد حديثًا وإن طال حتى يمسك"؛ (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، جـ1، صـ:521).
(4) أوصى لقمان الحكيم ابنه فقال: "يا بني جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله تعالى يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الله الأرض الميتة بوابل السماء"؛ (موطأ مالك، جـ 2، صـ 1002).
وقال لقمان لابنه: "يا بني، لا تتعلم ما لا تعلم حتى تعمل بما تعلم"؛ (اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي، صـ187).
(5) قال مالك بن أنس: "كانت أمي تعممني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه"؛ (ترتيب المدارك للقاضي عياض، جـ1، صـ 130).
(6) قال إبراهيم بن أدهم: "قال لي أبي: يا بني، اطلب الحديث، فكلما سمعت حديثًا، وحفظته، فلك درهم، فطلبت الحديث على هذا"؛ (شرف أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي، صـ 66).
(7) قال إبراهيم بن حبيب بن الشهيد: "قال لي أبي: يا بني، إيْتِ الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إلي لك من كثير من الحديث"؛ (الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي، جـ1، صـ80).
(8) قال أبو بكر بن المطوعي: اختلفت إلى أبي عبد الله ثنتي عشرة سنةً، وهو يقرأ (المسند) على أولاده، فما كتبت عنه حديثًا واحدًا، إنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 11، صـ:316).
(9) قال معتمر بن سليمان: "كتب إليَّ أبي وأنا بالكوفة: أن اشترِ الكتب، واكتب العلم؛ فإن المال يذهب والعلم يبقى"؛ (تقييد العلم للخطيب البغدادي، صـ112).
(10) قالت أم سفيان الثوري لسفيان: "يا بني، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي، وقالت له: يا بني إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في مشيك وحلمك ووقارك، فإن لم يزدك فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك"؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ2، صـ100).
(11) قال إبراهيم الحربي: "كانت عنق محمد بن عبد الرحمن الأوقص داخلة في بدنه، وكان منكباه خارجين، فقالت له أمه: يا بني، لا تكون في مجلس قوم إلا كنت المضحوك منه، المسخور به، فعليك بطلب العلم؛ فإنه يرفعك، فطلب العلم واجتهد فيه حتى تولَّى قضاء مكة عشرين سنة، مرت به امرأة، وهو يقول: اللهم اعتق رقبتي من النار، فقالت له: يا ابن أخي، وأي رقبة لك؟!"؛ (تاريخ دمشق، لابن عساكر، جـ54، صـ 106).
(12) قال محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: " كنت يتيمًا في حجر أمي فدفعتني في الكتاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، فكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع الحديث أو المسألة فأحفظها، ولم يكن عند أمي ما تعطيني أن أشتري به قراطيس قط، فكنت إذا رأيت عَظْمًا يلوح آخذه فأكتب فيه، فإذا امتلأ طرحته في جرة كانت لنا قديمًا"؛ (جامع بيان العلم، لابن عبد البر، جـ1، صـ 413).
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكرام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين