المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أهل العدل والإنصاف أهل السنة


جنون الحرف
02-04-2022, 10:30 PM
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

تعريف العدل والإنصاف:

العَدْلُ: ضِدُّ الجَوْرِ. والإنصاف: هو العدل، وإعطاء الحق، يقال: أنصف إذا أخذ الحقَّ، وأعطى الحق. فالإنصاف لا يخرج عن معنى العدل[1].

ومن أجمع الآيات الحاثَّة على العدل والإنصاف قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].

وجه الدلالة: أمر الله تعالى بالعدل بين العبدِ وربِّه، والعدلِ مع نفسه وولدِه، والعدلِ بينه وبين الخلق في بذل النصيحة والمودَّة وترك الخيانة، والإنصاف مع الناس في كلِّ الأمور، وتحمُّل ما يصيبه منهم، مع كفِّ العدوان والأذى[2].

وأهل السنة أهل عدلٍ وإنصاف، قال ابن تيمية رحمه الله: (وَلَمَّا كَانَ أَتْبَاعُ الأَنْبِيَاءِ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ، كَانَ كَلاَمُ أَهْلِ الإسْلامِ وَالسُّنَّةِ مَعَ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ، لا بِالظَّنِّ، وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ)[3].


والمُدقِّق في كلام ابن تيمية رحمه الله يلحظ ما يلي:

أولًا: قوله: "أَتْبَاعُ الأَنْبِيَاء" يدل على اقتفائهم سنن أنبيائهم، والأنبياءُ جمعيًا لا يسنون لأتباعهم إلاَّ الحق والعدل والخير، ومعنى اتِّباعهم لأنبيائهم: أنْ يلتزموا بهديهم في الحق والعدل والخير، وليس من أتباع الأنبياء مَنْ هم أشدُّ حرصًا وأكثرُ تعظيمًا لاقتفاء أثرِ نبيِّهم من أهل السنة والجماعة أتباع سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.



ثانيًا: قوله: "أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْعَدْل" يدل على أنَّ العدل لا يتحقَّق إلاَّ بالعلم، فالعلم أساسٌ لتحقيق العدل، وأهل السنة في التزامهم بهدي نبيِّهم صلى الله عليه وسلم إنما يلتزمونه بعلم أقواله وأفعاله وأحواله، فهم يُطبِّقون ما يعلمون من شرع نبيِّهم صلى الله عليه وسلم وسُنَّته، وهذا العلم هو منطلقهم في تقييم آراء مَنْ يُخالفهم، وفي الحكم على تصرُّفاتهم وأحوالهم بصرف النظر عن شخوصهم، فما وافق الحقَّ منه أقرُّوا به، وما خالف الحقَّ بيَّنوه وحذَّروا منه.


نماذج من العدل والإنصاف عند أهل السنة:

التَزَمَ أهل السنة والجماعة العدلَ منهجًا لحياتهم، وجعلوه حَكَمًا وحاكِمًا على تصرُّفاتهم وأقضيتهم وتعاملاتهم، وهم في ذلك مُتَّبِعون سُنَّة نبيِّهم، وكذا وصيَّة أئمتهم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سيما الخلفاء الراشدون، فقد كان العدل منهجَهم والإنصاف هدفَهم، وقد ساروا عليه داعين إليه، ومما ورد عنهم في ذلك:

ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب الناس قائلًا: (ألا وإني واللهِ ما أُرسل عُمَّالي إليكم إلاَّ ليعلِّموكم دِينَكم وسُننكم، لا لِيأخذوا أموالَكم، فمَنْ فُعِلَ به سوى ذلك فلْيرفعْه إليَّ، فوالذي نفسي بيده إذن لأقضينَّه)[4].

وما جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصيَّته للأشتر النخعي - وقد ولاَّه على مصر: (أنْصِفِ اللهَ، وأنْصِفِ الناسَ من نفسك، ومن خاصَّة أهلك، ومَنْ لك هوى فيه من رعيَّتك، فإنك إلاَّ تفعلْ تَظْلِمْ، ومَنْ ظَلَمَ عِبادَ اللهِ كان اللهُ خَصْمَهُ دون عباده، ومَنْ خاصَمَه اللهُ أدْحَضَ حُجَّتَه، وكان لله حربًا حتى ينزِعَ أو يتوب. وليس شيءٌ أدعى إلى تغيير نعمةِ الله وتعجيلِ نقمتِه من إقامةٍ على ظُلم، فإنَّ الله يسمع دعوةَ المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد. وليكن أحبُّ الأُمور إليك أوسطَها في الحق، وأعمَّها في العدل، وأجمعَها لرضا الرعية)[5].

والعدل عند أهل السنة سلوك مُطبَّقٌ ومنهج مُتَّبع، والرجال يُعرفون بالحق، ولا يُعرَف الحقُّ بالرجال، هذا عنوان أهل السنة والجماعة في الحكم على الرجال، وما يصدر عنهم من أقوالٍ وأفعال، وعلى هذا سار أهل السنة والجماعة، فما وافق الحقَّ قَبِلوه، وما خالف الحقَّ رفضوه، وهم في هذا كلِّه لا تَعَلُّق لهم بشخصِ قائلِه وإنْ كان من أهل السنة والجماعة؛ فهم يُعاملون المخالف من أهل السنة معاملةً عادلة مُنْصِفة بعيدًا عن الإفراط والتفريط، فلا هم يُجاملونه ويغضُّوا الطرف عن أخطائه ومخالفاته؛ فيصبحوا بذلك مُفرِّطين، ولا هم يطعنون فيه ويظلمونه؛ فيصبحوا مُفْرِطين، وإنما يعاملونه بالعدل والإنصاف مستلهمين منهجهم في تلك المعاملة من نصوص الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح في التعامل مع المخالف، ولو كان في دائرة أهل السنة والجماعة، فإن خالف أحدٌ من أهل العلم - ممَّن عُرِفَ تحرِّيه للحق والدعوة إليه - في خطأٍ، فإنهم لا يُسقطونه، بل يحفظون مكانته العلمية، ولا يقتدون به في خطئه، ويرجون له التوبة في هذا الخطأ.


قال ابن تيمية رحمه الله: (الأصُولُ الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإجْمَاعِ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الدِّينِ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ، لَيْسَ لأحَدٍ الخُرُوجُ عَنْهَا، وَمَنْ دَخَلَ فِيهَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ الْمَحْضِ، وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَمَا تَنَوَّعُوا فِيهِ مِنْ الأعْمَالِ وَالأقْوَالِ الْمَشْرُوعَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا تَنَوَّعَتْ فِيهِ الأنْبِيَاءُ)[6]. وهذا النص عن ابن تيمية رحمه الله يدل على مدى رجاحة عقله وَرُقي فِكره؛ إذ أنه راعى سُنَّةَ الاختلاف المَبنية على التنوع في العقول والأفهام وما توفَّر لديها من الأدلة والعلم، وأنَّ مثل هذا الاختلاف مشروع ووارد لا يؤدي إلى قطيعة أو فِصامٍ بين أهله ما داموا مُتَّفقين على الأصول الثابتة والأدلة القاطعة التي لا يُتصوَّر جهل العلماء بها أو عدم معرفتها.

والعدل والإنصاف بين أهل السنة والجماعة يتَّضح من خلال قواعد تمَّ استقراؤها عند تطبيقهم لهذا المنهج، ونوجزها فيما يلي:

أولًا: الاختلاف نوعان عند أهل السنة:

الاختلاف الوارد بين أهل العلم نوعان: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد.

واختلاف التنوع:

هو الاختلاف الاعتباري واللفظي، وهذا غالب ما يقع بين أهل السنة والجماعة من اختلاف، ومرجعه إلى عدة أمور؛ إمَّا إلى اختلاف العبارة واتحاد المعنى، وإمَّا إلى عدم تعارض المعنى، أو كون كل من القولين هو في معنى الآخر. والاختلاف المذموم: هو ما أدَّى إلى تفرُّق، أو تقاطع، أو تباغض، أو أدَّى إلى تكفير أو سبٍّ أو لعن[7].


قال الشاطبي رحمه الله: (كلُّ مسألةٍ حدَثَت في الإسلام واختلف الناس فيها، ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوةً ولا بغضاء ولا فرقة، علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكلُّ مسألةٍ حدثت وطرأت فأوجبت العداوةَ والبغضاء والتدابر والقطيعة، علمنا أنها ليست من أمرِ الدِّين في شيء)[8].

أمَّا اختلاف التضاد:

فهو القولان المتنافيان أو الأقوال المتنافية، ومن أمثلته:

1- الخلاف مع أهل البدع في مسائل أصول الدِّين.

2- أن يُوجب أحدهما شيئًا ويُحرِّمه الآخر.

3- أن يكون في المسألة نصٌّ من الكتاب أو السنة الصحيحة، لا يحتمل الاجتهاد أو التأويل[9].


ثانيًا: قواعد في التعامل مع المُخالِف من أهل السُّنة[10]:

من القواعد المهمة في التعامل مع المُخالِف من أهل السنة ما يلي:

القاعدة الأُولى: ترك التَّبديع والتَّضليل في دقائق المسائلِ وآحادِها:

من منهج أهل السنة والجماعة أنهم يتركون التبديع والتضليل في دقائق المسائل وآحادها التي يُخطئ فيها العلماء، ويعذرون مَنْ خفيت عليه المسائل الدَّقيقة، وكان في اجتهاده قاصدًا الحقَّ وأخطأ فيه، وفي ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: (وَلا رَيْبَ أَنَّ الْخَطَأَ فِي دَقِيقِ الْعِلْمِ مَغْفُورٌ لِلأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ، وَلَوْلا ذَلِكَ لَهَلَكَ أَكْثَرُ فُضَلاءِ الأُمَّةِ. وَإِذَا كَانَ اللَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لِكَوْنِهِ نَشَأَ بِأَرْضِ جَهْلٍ؛ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَطْلُبْ الْعِلْمَ، فَالْفَاضِلُ الْمُجْتَهِدُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ بِحَسَبِ مَا أَدْرَكَهُ فِي زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ؛ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ مُتَابَعَةَ الرَّسُولِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ هُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يَتَقَبَّلَ اللَّهُ حَسَنَاتِهِ، وَيُثِيبَهُ عَلَى اجْتِهَادَاتِهِ، وَلا يُؤَاخِذَهُ بِمَا أَخْطَأَ؛ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ: ﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286])[11].

وقال الذهبي رحمه الله: (ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطًا مغفورًا له، قُمْنَا عليه، وبَدَّعناه، وهجرناه، لَمَا سَلِمَ معنا لا ابن نصر، ولا ابن مندة، ولا مَنْ هو أكبر منهما، واللهُ هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة)[12].

وقال رحمه الله في موضع آخَر: (ولو أنَّ كلَّ مَنْ أخطأ في اجتهاده مع صِحَّة إيمانه، وتوخِّيه لاتِّباع الحق أهدرناه، وبدَّعناه، لقلَّ مَنْ يسلم من الأئمة معنا، رحم اللهُ الجميعَ بمَنِّه وكرمِه)[13]. وقال أيضًا: (إذا أخطأ إمامٌ في اجتهاده، لا ينبغي لنا أن ننسى محاسِنَه، ونُغطِّي معارِفَه، بل نستغفر له، ونعتذر عنه)[14].

وقال ابن القيم رحمه الله: (ومَنْ له عِلمٌ بالشَّرع والواقع يعلم قطعًا أنَّ الرَّجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالح، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهلِه بمكانٍ، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أنْ يُتَّبَعَ فيها، ولا يجوز أنْ تُهدر مكانتُه وإمامتُه ومنزلتُه من قلوب المسلمين)[15].

وقال أيضًا: (فلو كان كلُّ مَنْ أخطأ أو غلط تُرِكَ جملةً، وأُهْدِرَت محاسِنُه، لفسدت العلومُ والصناعاتُ والحِكَمُ، وتعطَّلَت معالِمُها)[16]. ويقول أيضًا: (من قواعدِ الشَّرع والحِكمة أيضًا: أنَّ مَنْ كثرت حسناتُه وعظُمَت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهر، فإنه يُحْتَمَلُ له ما لا يُحْتَمَلُ لغيره، ويُعْفَى عنه ما لا يُعْفَى عن غيره)[17].


وها هو الذهبي رحمه الله - وهو الإمام المُنْصِف العادل - يلتمس العذر لقتادة رحمه الله في مسألة خالف فيها الحقَّ والصواب، فيقول: (ولعلَّ اللهَ يعذرُ أمثالَه مِمَّنْ تلبَّسَ ببدعةٍ يريد بها تعظيمَ الباري وتنزيهه، وبَذَلَ وُسْعَه، واللهُ حَكَمٌ عدلٌ لطيفٌ بعباده، ولا يُسأل عمَّا يفعل.

ثم إنَّ الكبير من أئمة العلم إذا كَثُر صوابُه، وعُلِمَ تحرِّيه للحقِّ، واتَّسع عِلمُه، وظَهَرَ ذكاؤه، وعُرِفَ صلاحُه وورعُه واتِّباعُه، يغفر له الله، ولا نُضَلِّلُه ونطرحه، وننسى محاسِنَه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبةَ من ذلك)[18].

وهذه النصوص الواردة عن الأئمة الأعلام المُبيِّنة لمنهجهم في التعامل مع المُخالف تدل على الوسطية الإسلامية التي راعت الفطرةَ البشرية وما يعتريها من الخطأ أو التباسٍ في الفهم مما ينتج عنه الخطأ البَيِّن، والذي يقع فيه العالِمُ النحرير والمُحقِّق المُدقِّق، فسبحان مَنْ له الكمالُ المطلق والذي لا يعتريه خطأٌ ولا نسيان.

ولكن تجدر الإشارة إلى أنَّ هناك من الأخطاء ما لا يُعذَر فيها صاحبها، وإنما لا بد من التشديد عليه والوقوف حياله لجسامة الخطأ، وهذا ما نبَّه عليه وأشار إليه ابن تيمية رحمه الله بقوله عن الخلاف المذموم الذي لا يعذر صاحبه قائلًا: (مَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَالسُّنَّةَ الْمُسْتَفِيضَةَ أَوْ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ خِلافًا لا يُعْذَرُ فِيهِ، فَهَذَا يُعَامَلُ بِمَا يُعَامَلُ بِهِ أَهْلُ الْبِدَعِ)[19].

القاعدة الثانية: إعذارُ أهلِ السُّنة لمَنْ لم تبلغْه الحُجَّة:

مَنْ منهج أهل السنة والجماعة - بالإضافة لما سبق - أنهم يعذرون مَنْ لم تبلغه الحُجَّة، وفي ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: (إذَا رَأَيْت الْمَقَالَةَ الْمُخْطِئَةَ قَدْ صَدَرَتْ مِنْ إمَامٍ قَدِيمٍ فَاغْتُفِرَتْ؛ لِعَدَمِ بُلُوغِ الْحُجَّةِ لَهُ؛ فَلاَ يُغْتَفَرُ لِمَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ مَا اُغْتُفِرَ لِلأَوَّلِ، فَلِهَذَا يُبَدَّعُ مَنْ بَلَغَتْهُ أَحَادِيثُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَنَحْوِهَا إذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَلاَ تُبَدَّعُ عَائِشَةُ وَنَحْوُهَا مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ بِأَنَّ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ فِي قُبُورِهِمْ ؛ فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فَتَدَبَّرْهُ؛ فَإِنَّهُ نَافِعٌ)[20].

وقال أيضًا: (وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الاعْتِقَادِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَالِكًا، فَإِنَّ الْمُنَازِعَ قَدْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا، يَغْفِرُ اللَّهُ خَطَأَهُ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ)[21].

وقال في موطنٍ ثالث: (وَكَثِيرٌ مِنْ مُجْتَهِدِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ قَدْ قَالُوا وَفَعَلُوا مَا هُوَ بِدْعَةٌ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ بِدْعَةٌ؛ إمَّا لأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ ظَنُّوهَا صَحِيحَةً، وَإِمَّا لآيَاتٍ فَهِمُوا مِنْهَا مَا لَمْ يُرَدْ مِنْهَا، وَإِمَّا لِرَأْيٍ رَأَوْهُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ نُصُوصٌ لَمْ تَبْلُغْهُمْ. وَإِذَا اتَّقَى الرَّجُلُ رَبَّهُ مَا اسْتَطَاعَ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286])[22].

وما قرَّره الإمام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة يتَّفق مع قواعد الشريعة وأصولها، فقد رُفِعَ الحرجُ عن الأُمَّة بسبب الخطأ والنسيان والإكراه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ)[23].

بالإضافة إلى الإعذار، وهو بابٌ واسع في الشريعة، ومن أسباب الإعذار الجهل وعدمُ العلم بالشيء، ومن ثَمَّ فعدم بلوغ الحُجَّة للإمام المجتهد تعني جهلَه وعدمَ علمِه بها، فيُعذر ولا يؤاخذ بسبب ذلك.


وهذه القاعدة المعمول بها في الشريعة الغراء كانت من أهمِّ الأسباب التي دعت العلماء إلى الاجتهاد في الدِّين؛ إذ لو كان كلُّ مجتهدٍ مُؤاخذًا بخطئه ومحاسبًا عليه بعدما أَعملَ أدلَّته وأجهد رأيه وفِكره، لربما توقَّف عن الاجتهاد خشية العقاب، ولكن ما حدث هو العكس، فَفُتِح باب الاجتهاد على مصراعيه، وقد مُنِح العلماءُ المُجتهدون الرَّبَّانيون حصانةً شرعية ترفع عنهم الحرج وتمحو عنهم آثار اجتهادهم الخاطئ إذا أخطأوا، بل أثابتهم الشريعةُ على خطئهم؛ دعمًا لهم، وشدًّا لعزائمهم، وتقويةً لقلوبهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ)[24].

وقد طبَّق أهل السنة والجماعة هذه القاعدة؛ فاعترفوا بفضل أهل الفضل منهم، وحَفِظوا لهم مكانتهم، وإنْ صدر منهم خطأ في اجتهادٍ أو رأي لم يُشَهَّروا، ولم يُهاجَموا، وإنما أبانوا الحقَّ في المسألة غير مُتَعرِّضين لشخوصهم وأعراضهم.

القاعدة الثالثة: الاعتذار للمخطئ المجتهد لا يَمنع من بيان الحق:

إعذار المجتهد المخطئ لا يمنع من بيان الحق، هذا ما عليه أهل السنة والجماعة؛ إذ الحقُّ أحقُّ أنْ يظهر ويُتَّبع، ويُبَيَّن للناس ويعرفونه؛ وفي هذا الشأن يقول ابن تيمية رحمه الله: (وَإِنْ كَانَ الْمُخْطِئُ الْمُجْتَهِدُ مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ، وَهُوَ مَأْجُورٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ. فَبَيَانُ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاجِبٌ؛ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ)[25].

وقال أيضًا: (لا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَعْدِلَ عَنْ قَوْلٍ ظَهَرَتْ حُجَّتُهُ بِحَدِيثِ صَحِيحٍ وَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ إلَى قَوْلٍ آخَرَ قَالَهُ عَالِمٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ هَذِهِ الْحُجَّةَ وَإِنْ كَانَ أَعْلَم؛ إذْ تَطَرُّقُ الْخَطَأِ إلَى آرَاءِ الْعُلَمَاءِ أَكْثَرُ مِنْ تَطَرُّقِهِ إلَى الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ الأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ، بِخِلاَفِ رَأْيِ الْعَالِمِ. وَالدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ خَطًَا إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ دَلِيلٌ آخَرُ، وَرَأْيُ الْعَالِمِ لَيْسَ كَذَلِكَ... لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا فِي تَرْكِهِ لَهُ، وَنَحْنُ مَعْذُورُونَ فِي تَرْكِنَا لِهَذَا التَّرْكِ)[26].

وعلى هذا سار أهل السنة والجماعة؛ فكم من تلميذ خالفَ شيخَه في اجتهاده ورأيه، وكم من إمامٍ خالفه أتباعُه في اجتهاده، فعدلوا عن اجتهاده ورأيه إلى الدليل الشرعي الذي وَجدوا الحقَّ معه.

والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة، فها هو الإمام أبو حنيفة رحمه الله يُخالفه تلميذه محمد بن الحسن الشيباني وأبو يوسف في مسائل مُتعدِّدة ومتنوعة دون انتقاصٍ لمقام إمامهم ودون خدش لمكانته في نفوسهم. ولقد كان شعار أهل السنة في ذلك "فلان حبيب إلى قلوبنا، ولكن الحق أحب إلينا".

ولعل هذا هو ما حدا بالإمام مالكٍ رحمه الله أنْ يرفض ما عزم خليفة المسلمين عليه من جمع الناس على مذهبه؛ إذ علَّل الإمام مالكٌ أنَّ هذا قد يشقُّ على الناس لاختلاف الأدلة وتنوِّعها، وما عند هذا غير ما عند هذا، فأراد رحمه الله إعطاءَ فسحةٍ للناس؛ كي يتعاملوا مع الدليل الشرعي الذي يصل إليهم، ليتَّضح لهم وجه الحقِّ في المسألة، ولكي تكون هناك فرصة للمراجعة وتوضيح الصواب.

وكذلك هذا ما دفع الإمام الشافعي رحمه الله أن يقول: (إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي، وَاضْرِبُوا بِقَوْلِي عُرْضَ الْحَائِطِ)[27]. وهكذا سار أهل السنة مع الحق، وداروا معه حيث دار بتجرد تام وإخلاص لدين الله تعالى، فاعتذروا عن خطأ المجتهدين، وأبانوا وجه الحقِّ، مع الاعتراف بفضلهم ومكانتهم

aksGin
02-05-2022, 02:42 AM
جزاك لله خير ق1

بنت قحطان
02-05-2022, 06:30 AM
طــرح قيم بارك الله فيك واثابك الجنه
وجعله في ميزان حسناتك

صاحبة السمو
02-05-2022, 09:44 AM
جزاك الله خيـر
بارك الله في جهودك
وأسال الله لك التوفيق دائماً

بحـر
02-05-2022, 10:07 PM
اثابك الله الاجر

دمت بخير

هيبة مشاعر
02-06-2022, 12:30 PM
http://www.tra-sh.com/up/uploads/1644139043531.gif (http://www.tra-sh.com/up/)

ولد الذيب
02-09-2022, 05:21 PM
عافااك الله على الطرح الرااااائع والجميل :137:






:136:




اعتدنا منك المميز والإبداع دائماً ونتطلع لجديدك :81:

المحبوب
02-13-2022, 07:25 PM
جزاك الله الف خيررر

جنون الحرف
03-01-2022, 11:07 PM
إكس

أسعدني تواجدك
كل الشكر والتقدير لك
ودي

جنون الحرف
03-01-2022, 11:07 PM
محبوب

أسعدني تواجدك
كل الشكر والتقدير لك
ودي

جنون الحرف
03-01-2022, 11:07 PM
بحر

أسعدني تواجدك
كل الشكر والتقدير لك
ودي

جنون الحرف
03-01-2022, 11:08 PM
بنت

أسعدني تواجدك
كل الشكر والتقدير لك
ودي

جنون الحرف
03-01-2022, 11:08 PM
صاحبه

أسعدني تواجدك
كل الشكر والتقدير لك
ودي

جنون الحرف
03-01-2022, 11:08 PM
هيبة

أسعدني تواجدك
كل الشكر والتقدير لك
ودي

جنون الحرف
03-01-2022, 11:08 PM
ولد

أسعدني تواجدك
كل الشكر والتقدير لك
ودي

سحاب
04-11-2022, 03:06 PM
,‘*
شُكراً يَ ألق
لـ جمال الآطَروحهَ الآنيقَهَ
أطيب التحايا وارق المنى ,‘:118:

شموع الحب
05-18-2022, 08:51 AM
جــــزاك الله خيـراً على ما قدمت
جعلـه الله في ميزان حسنـاتك
دمت بحفظ الرحمن