شموع الحب
12-14-2021, 11:13 AM
https://a-al7b.com/up/uploads/159675387706654.png
عن معاوية بن الحكم السُّلمي قال: "بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أُمِّيَاه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلَمَّا رأيتهم يُصمتُونَنِي، لكني سكتُّ، فلما صلَّى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلِّمًا قبله ولا بعده أحسنَ تعليمًا منه، فوالله، ما كَهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: ((إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلامِ النَّاس، إنَّما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن))، أو كما قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قلت: يا رسول الله، إنِّي حديث عهد بجاهليَّة، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منَّا رجالًا يأتون الكهان، قال: ((فلا تأتهم))، قال: ومنا رجال يتطيرون، قال: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدَّنَّهم))، قال قلت: ومنَّا رجال يَخطُّون، قال: ((كان نبي من الأنبياء يَخُطُّ، فمن وافق خطه فذاك))، قال: وكانت لي جارية ترعى غنمًا لي قِبل أُحدٍ والجَوَّانِيَّة، فاطلعت ذات يوم، فإذا الذِّئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسَف كما يأسفون، لكنِّي صَكَكْتُها صَكَّةً، فأتيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - فعظَّم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال ((ائتني بها))، فأتيته بها، فقال لها: ((أين الله؟))، قالت: في السماء، قال: ((من أنا؟))، قالت: أنت رسول الله، قال: ((أعتقها، فإنها مؤمنة))"[1].
هذا الحديث الجليلُ اشتمل على عدَّة فقرات:
الفقرة الأولى: تكلمنا عنها سابقًا، وهي تتمثل في حسن تعليمه - صلى الله عليه وسلَّم - وأنَّ أفضل صفة يسترِق بها المرء قلوبَ النَّاس أن يترفَّق بهم، وألا يُعاتبهم، فإن العتاب كثيرًا ما يفسد الوُدَّ، وأفضل الناس أعذرهم للناس، وهذه كانت سيرة نبينا - عليه الصلاة والسلام - كان قليلَ العتاب، لا يعاتب إلَّا فيما يخص أمر الدين، ولا يعزر إلا بهذا الأمر أيضًا، وكان كثير الإغضاء، ولا يواجه أحدًا بما يكره.
لذلك خطف قلوبَ الناس، ودخلوا في دين الله أفواجًا لما رأوا حُسْنَ خلقه - عليه الصلاة والسلام - وقد امتدحه الله - تعالى - بهذه الصفة تحديدًا، فقال:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، ثم قال مُعاوية - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا رسول الله، إنِّي حديث عهد بجاهليَّة))، والجاهليَّة هي فترة ما قبل الإسلام، وقد تكون صفة، وليست فترة زمنيَّة، وقد يرتكب المرء أخلاقًا من أخلاق الجاهليَّة مثل: صك الوجه عند المصيبة، والطَّعن في الأنساب، والدُّعاء بدعوى الجاهلية بالويل والثُّبور وعظائم الأمور؛ كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - لأبي ذرٍّ لما عيَّر رجلًا بأمه: ((إنَّك امرؤ فيك جاهليَّة))[2].
فالجاهليَّة كفترة هي التي سبقت الإسلام؛ لكثرة جهالتهم، ومُخالفتهم أمر الله - عز وجل - لأنَّ أهلَ الجاهلية قديمًا كان عندهم بقايا من دين إبراهيم - عليه السلام - والعرب ليس كلهم معذورًا، ولا يُعد من أهل الفترة على ما هو معروف أنَّهم يُعذرون ويُمتحنون في عرصات القيامة، فمثلًا عمرو بن عامر الخزاعي، الذي قال فيه النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((يجر قُصْبَه في النَّار))، كان أول من سيب السوائب"[3]، قُصْبه؛ أي: أمعاءه، فهو أول من بدَّل دين إبراهيم - عليه السلام - وهو الذي نَقَلَ التماثيل من النَّصارى في الشام إلى الكعبة، وزيد بن عمْرو بن نفيل والد سعيد بن زيد - رضي الله عنه - "أحد العشرة المبشرين بالجنة"، كان يلقب بمُحْيِي الموؤودة، وأخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - أنَّه يبعث يوم القيامة أُمَّة واحدة.
فهذان نموذجان عن رجلين كانا في الجاهليَّة، لكن لم يدرجا في لائحة أهل الفترة، وبالجملة فالجاهليَّة كفترة زمنية هذه سبقت الإسلام، أمَّا الجاهلية كخُلق، فهذا موجود في أمة النبي - عليه الصلاة والسلام - فمعاوية يقول: "يا رسول الله، إنِّي حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منَّا رجالًا يأتون الكهان، قال: ((فلا تأتهم))، قال: ومنَّا رجال يتطيرون، قال: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم))، قال: قلت: ومنا رجال يخطون، قال: ((كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك))، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - نهى عن هذه الأمور الثلاثة، لكن تنوعت إجابته في النَّهي.
فمنه نَهيٌ صريح، ونهي خفيف، ونهي عن طريق الإيماء والإشارة، وهذا التفاوُت يدل على خطورة المسألة، والنهي الصريح الجازم في قول معاوية هو: "وإن منا رجالًا يأتون الكهان، قال: ((فلا تأتهم))، وإنَّما كان نهيًا جازمًا واضحًا؛ لأنَّ الكاهن هو الذي يدَّعي معرفة الغيبيَّات، وما يكون في المستقبل، وهذا من جملة الغيب، فكأنَّ هذا الكاهن ينازع الله - تعالى - مَعرفة الغَيْب، ولأنَّ الكهان يتلقفون ما يُلقيه الجنِّيُّ من بعض كلام الحقِّ، فيقع تغرير شديد عند الخلق بهذه الكلمة التي يخطفها الجني.
ولقد علمنا من رسول الله - عليه الصلاة والسلام - كيف يعرف الكُهَّان بعض الغيبيات التي هي من جملة الحق؛ كما جاء عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "سأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ناس عن الكهَّان، فقال: ((ليس بشيء))، فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثوننا أحيانًا بشيء، فيكون حقًّا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تلك الكلمة من الحق، يخطفها الجني، فيُقرُّها في أذن وليِّه، فيخلطون معها مائة كذبة))"[4].
لذلك؛ فكثير من النَّاس في هذه الأمة يعطون آذانهم للكهنة، وأكثر مَن يتعاطى ذلك أصحاب الأموال وأصحاب المناصب؛ لأنَّ علاقةَ مثل هؤلاء بالدِّين - إلا ما رحم ربي - واهية، فهم يلجؤون إلى الكهنة والسَّحرة، ويصدقونهم بلا مُعارضة، فهؤلاء الكهنة الذين يدعون معرفة المستقبل يأخذون الكلمة الحق، ثم يخلطونها بمائة كذبة؛ كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلَّم - فإذا أخبر الكاهن بشيء من الكلمة التي يتلقَّفها من الجني، يقع في رُوع الناس أنَّه يعلم الغيب، فكُلَّما أراد أنْ يسافر شخص ما - مثلًا - أتى الكاهن، فيبتزُّه ويدَّعي علم الغيب، وهو لا يعلم شيئًا على الحقيقة، وإنَّما يوهم هذا السائل أنَّه يعرف.
وهذا هو الشرك بالله؛ لذلك حسم النبي - عليه الصلاة والسلام - هذا الأمر فقال: ((فلا تأتهم))، وللكهنة طرق في تثبيت ما يقولون ويرتكبون بما يُسمَّى بالسجع - السجع: هو النثر المُقَفَّى - فهم كانوا يسجعون، كما في حديث عبدالله بن عمر، قال: "ما سمعت عُمَرَ لشيء قطُّ يقول: إنِّي لأظنُّه كذا، إلَّا كان كما يظن، بينما عُمَرُ جالس؛ إذ مَرَّ به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني، أو إنَّ هذا على دينه في الجاهليَّة، أو لقد كان كاهِنَهم، عليَّ الرجلَ، فدُعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيتُ كاليوم اسْتُقْبِلَ به رجلٌ مُسلم، قال: فإنِّي أعزم عليك إلا ما أخبرتني، قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يومًا في السوق، جاءتني أعرف فيها الفَزَعَ، فقالت: ألم تَرَ الجن وإِبْلاسَهَا، ويَأْسَهَا من بعد إِنْكَاسِهَا، ولُحُوقها بالقِلاص وأحلاسِها، قال عمر: صدق، بينما أنا عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ، لم أسمع صارخًا قطُّ أشدَّ صوتًا منه يقول: يا جَلِيح، أَمْرٌ نَجِيح، رجل فَصيح، يقول: لا إله إلا أنت، فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتَّى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، فقمت، فما نَشِبْنَا أن قيل: هذا نبي"[5].
كما كان الكهنة يحكمون بين الشُّعراء قديمًا؛ لخبرتهم بالألفاظ، فهذه صفات تُميِّز الكهنة.
ولارتكاب الكُهَّان كل هذا الشرك العظيم حَرَّم النبي - عليه الصلاة والسلام - حُلْوَانَ الكاهن، وحَرَّمَ أجر الكهانة؛ كما في حديث ابن مَسعود البدري، قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن ال***، ومهر البَغِيِّ، وحُلْوَانِ الكاهن"[6]، وفيه أيضًا إجماع من العلماء أن حلوان الكاهن حرام، وأبو بكر - رضي الله عنه - فعل شيئًا هو معفوٌّ عنه إذا لم يكُن للمرء به علم؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهليَّة، وما أُحْسِن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني، فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده، فقاء كلَّ شيء في بطنه"[7].
حتَّى قال ابن سيرين - رحمه الله -: "لا أعلم أحدًا استقاءَ من طعام حرام غَيْرَ أبي بكر"، وأهل العلم يجمعون على أنَّ المرء إذا أكل طعامًا حرامًا وهو لا يدري، أو أكل طعامًا فيه شبهة وهو لا يدري، فليس عليه أن يستقيء من هذا؛ بل مضى ذلك وهو مَعْفُوٌّ عنه، غير أنَّ قانون الورع يختلف عن قانون الجواز "الحلال والحرام"، فما يكون جائزًا عند الذين يقفون على الجواز - ولا حرج عليهم في ذلك - لا يكون كذلك عند أهل الورع، فالحاصل أنَّ الكهانة حرام، والكاهن مُرتكب لحرام كبير باتِّفاق العُلماء، وإذا عُلم أن رجلًا يتكهَّن، فينبغي لمن له سلطان عليه أنْ يَمنعه من ذلك، فإنْ لم ينتهِ أنزل به العُقُوبة الردعيَّة؛ لذلك حسم النبي - عليه الصَّلاة والسلام - الأمر مع مُعاوية بنهي جازم: ((فلا تأتِهم))، بخلاف المسألة الثانية؛ لمَّا قال له: "ومنَّا رجال يتطيرون"، قال: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم)).
والفرق جليٌّ بين هذا الجواب وبين مسألة الكهانة، وأصل الطيرة منسوبة إلى الطير؛ حيثُ كانت العرب - إذا أراد أحدٌ منهم السفر - يراقبون السَّانح - صفة للطائر إذا طار يمينًا - والبارح - صفة للطائر إذا طار يسارًا - فكانوا يتطيَّرون، والمرء يتساءل: ما فِقْه الطيران يمينًا أو شمالًا؟ وما هو العلم الكامن تحت هذه النَّظرية؟ والرسول - صلى الله عليه وسلم - أجابَ عن هذا كلِّه بأنه ليس شيئًا حقيقيًّا بقوله: "ذاك شيء يجدونه في صُدُورهم"؛ أي: لا حقيقة له، فإذا رأى المرء شيئًا من هذا ((فلا يصدنهم))؛ أي: ما يجده في صدره أن يُتمم حاجته، فنهى النَّبي - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك نهيًا رفيقًا، وكان أهل الجاهلية يتطيرون أشدَّ ما يكون التطير في ثلاثة أشياء: المرأة، والدار، والفرس؛ كما جاء عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا عدوى ولا طيرة، إنَّما الشُّؤم في ثلاث: في الفرس، والمرأة، والدار))[8].
وإنَّما قيل: الشُّؤم في هذه الأشياء؛ لكثرة مُلابسة الرجل امرأته وداره وفرسه، فهي أكثر الأشياء التي تُصاحب الرجل، فقد يصادف قَدَرَ الله أن تكون المرأةُ على غير ما يريد الرَّجل فيتأذَّى بها، فكلما حدث له شر، أناطه بالمرأة؛ بسبب استمرار أذاها، وهي ليست لها علاقة بذلك الشر، وكانت العرب تقول: "رُبَّ مَمْلول لا يُستطاع فراقه"؛ لذلك قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((الطيرة شركٌ، الطيرة شركٌ - ثلاثًا - وما منَّا إلَّا، ولكنَّ اللَّهَ يذهبه بالتوكُّل"[9]؛ أي: ما منَّا من أحد إلَّا ويخطر عليه، ويقع له تشاؤم من شيء ما، لكنَّ الموحد إذا مضى، وتوكَّل على الله، ينقضي الأمر.
وعن أنس بن مالك قال: "قال رجل: يا رسول اللَّه، إنا كُنَّا في دار كثيرٌ فيها عددُنا، وكثيرٌ فيها أموالنا، فتحوَّلنا إلى دار أخرى، فقلَّ فيها عددُنا، وقلَّت فيها أموالُنا، فقال رسول اللَّه - صلى اللّه عليه وسلم -: ((ذروها ذميمةً))[10]؛ أي: اخرجوا من هذه الدَّار، وهذا ليس فيه إثبات للشُّؤم، ولكن لما صادف قَدَرَ الله قِلَّةُ عددهم، وقلة مالهم، من باب سدِّ الذريعة وحسم الأمر، قال النبي - عليه الصلاة والسلام - له: ((اخرج))؛ لأنَّ الرجل سيعتقد أن الدار مشؤومة، فيصرف الأمر في ذلك لغير الله، فيقع في الشرك.
وندب النبي بدلًا من هذا إلى الفأْل، والصحابة التبس عليهم، فاستفهموا ما الفأْل؟ فأجاب النبي - عليه الصلاة والسلام - موضحًا هذا التفاؤل: ((لا طيرة، وخيرها الفأل))، قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: ((الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم))[11].
لذلك كان - عليه الصلاة والسلام - عندما يريد أن يخرج لبعض حوائجه، يُحب أن يسمع: يا نجيح، ويا راشد، والاسمان مشتقان من النجاح والرُّشد، والمرء ينشرح صدره بسماع مثل هذا الكلام، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يندب إلى اختيار الاسم الصالح والفاضل، غَيْرَ أن كثيرًا من الناس خالفوا هَدْي النبي - عليه الصلاة والسلام - في اختيار أسماءٍ لأولادهم، بل أصبحنا نسمع أسماءً غريبة الشكل، وكل هذا الحرص على اختيار الاسم؛ لأنه قد يُنفر، والعرب قديمًا - حقًّا - أنَّها كانت تختار أسماءً منفرة، لكن كان لهم نظر في ذلك، فقالوا: "نسمي موالينا لنا، ونسمي أولادنا لأعدائنا".
ومن باب الطرائف ما يُروى عن ثابت بن جابر أو "تأبط شرًّا" أنَّه لقيه رجل من ثقيف، وقال له: بم تغلب الرجال يا ثابت، وأنا كما أراك دميمًا وضئيلًا؟ قال: باسمي، ساعة ألقى الرجل، فأقول له: أنا تأبَّط شرًّا، فينخلع قلبه، فآخذُ منه ما أريد، قال له: بهذا فقط، فأجاب، قال: فقط، فسكت الثقفي قليلًا، وقال له: هل تبيعني اسمك؟ قال: بم؟ قال: باسمي وبحُلَّتي، فخلع ثابت طِمريه (ثياب بالية)، ولبس حلة الثقفي، وقال له: أنت من اليوم تأبَّط شرًّا، وأنا أبو وهب (كنية الثقفي)، ثم قال تأبطَّ شرًّا يخاطب زوجة هذا الأحمق:
أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أنَّ حَلِيلَهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَأَبَّطَ شَرًّا وَاكْتَنَيْتُ أَبَا وَهْبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَهَبْهُ تَسَمَّى اسْمِي وَسَمَّانِيَ اسْمَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَأَيْنَ لَهُ صَبْرِي عَلَى مُعْظَمِ الْخَطْبِ؟! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَيْنَ لَهُ بَأْسٌ كَبَأْسِي وَسَوْرَتِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَيْنَ لَهُ فِي كُلِّ فَادِحَةٍ قَلْبِي؟! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فمُمكن لبعض الأسماء أن تكونَ سيئة ومُنفرة؛ لذا قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((لا تُسَمِّيَنَّ غلامَك يسارًا، ولا رباحًا، ولا أفلحَ، فإنَّك تقول: أثَمَّ هو؟ فلا يكون، فيقول: لا))[12].
فيقع الكلام في أذن المستمع وقوعًا مستبشعًا، والمسألة ليست لها علاقة بنيّة المتكلم، فهو فقط يسأل عن إنسان، فيُمكن أن يتشاءم به، وقد يصادف قَدَر الله هذه اللحظة، فتقع مشكلة أو فتنة، فيقع في الشرك جرَّاء تشاؤمه، ولأن المسألة دقيقة قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم))، فالإنسان إذا تطير بشيء عليه أن يَمضي ويتوكَّل على الله - تعالى - وقدره - عزَّ وجلَّ - ماضٍ لا مَحالة، فلا يربط بين هذا التشاؤم والتطير بالواقع، لكنَّه قد يصادف القدر، فمن باب سد الذَّريعة نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فنعوذ بالله أن نشرك به ونحن نعلم، ونستغفره لما يعلم ولا نعلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي القدير.
يُتبع إن شاء الله.
[1] رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصَّلاة، ونسخ ما كان من إباحة، ح ر: 33.
[2] رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، ح ر: 30.
[3] رواه البخاري في كتاب التفسير، باب: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ﴾ [المائدة: 103]، ح ر: 4347.
[4] رواه البخاري في كتاب الطب، باب الكهانة، ح ر 5429.
[5] رواه البخاري في كتاب فضائل الصَّحابة، باب: إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ح ر: 3653.
[6] رواه البخاري في كتاب الطب، باب الكهانة، ح ر: 5428.
[7] رواه البخاري في كتاب فضائل الصَّحابة، باب: أيام الجاهليَّة، ح ر: 3629.
[8] رواه البخاري في كتاب الطب، باب لا عدوى، ح ر: 5438.
[9] رواه أبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة، ح ر: 3910.
[10] رواه أبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة، ح ر: 3924.
[11] رواه البخاري في كتاب الطب، باب الفأل، ح ر: 5423.
[12] رواه مسلم في كتاب الآداب، باب: كراهة التسمية بالأسماء القبيحة، وبنافع ونحوه، ح ر: 12.
عن معاوية بن الحكم السُّلمي قال: "بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أُمِّيَاه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلَمَّا رأيتهم يُصمتُونَنِي، لكني سكتُّ، فلما صلَّى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلِّمًا قبله ولا بعده أحسنَ تعليمًا منه، فوالله، ما كَهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: ((إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلامِ النَّاس، إنَّما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن))، أو كما قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قلت: يا رسول الله، إنِّي حديث عهد بجاهليَّة، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منَّا رجالًا يأتون الكهان، قال: ((فلا تأتهم))، قال: ومنا رجال يتطيرون، قال: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدَّنَّهم))، قال قلت: ومنَّا رجال يَخطُّون، قال: ((كان نبي من الأنبياء يَخُطُّ، فمن وافق خطه فذاك))، قال: وكانت لي جارية ترعى غنمًا لي قِبل أُحدٍ والجَوَّانِيَّة، فاطلعت ذات يوم، فإذا الذِّئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسَف كما يأسفون، لكنِّي صَكَكْتُها صَكَّةً، فأتيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - فعظَّم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال ((ائتني بها))، فأتيته بها، فقال لها: ((أين الله؟))، قالت: في السماء، قال: ((من أنا؟))، قالت: أنت رسول الله، قال: ((أعتقها، فإنها مؤمنة))"[1].
هذا الحديث الجليلُ اشتمل على عدَّة فقرات:
الفقرة الأولى: تكلمنا عنها سابقًا، وهي تتمثل في حسن تعليمه - صلى الله عليه وسلَّم - وأنَّ أفضل صفة يسترِق بها المرء قلوبَ النَّاس أن يترفَّق بهم، وألا يُعاتبهم، فإن العتاب كثيرًا ما يفسد الوُدَّ، وأفضل الناس أعذرهم للناس، وهذه كانت سيرة نبينا - عليه الصلاة والسلام - كان قليلَ العتاب، لا يعاتب إلَّا فيما يخص أمر الدين، ولا يعزر إلا بهذا الأمر أيضًا، وكان كثير الإغضاء، ولا يواجه أحدًا بما يكره.
لذلك خطف قلوبَ الناس، ودخلوا في دين الله أفواجًا لما رأوا حُسْنَ خلقه - عليه الصلاة والسلام - وقد امتدحه الله - تعالى - بهذه الصفة تحديدًا، فقال:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، ثم قال مُعاوية - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا رسول الله، إنِّي حديث عهد بجاهليَّة))، والجاهليَّة هي فترة ما قبل الإسلام، وقد تكون صفة، وليست فترة زمنيَّة، وقد يرتكب المرء أخلاقًا من أخلاق الجاهليَّة مثل: صك الوجه عند المصيبة، والطَّعن في الأنساب، والدُّعاء بدعوى الجاهلية بالويل والثُّبور وعظائم الأمور؛ كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - لأبي ذرٍّ لما عيَّر رجلًا بأمه: ((إنَّك امرؤ فيك جاهليَّة))[2].
فالجاهليَّة كفترة هي التي سبقت الإسلام؛ لكثرة جهالتهم، ومُخالفتهم أمر الله - عز وجل - لأنَّ أهلَ الجاهلية قديمًا كان عندهم بقايا من دين إبراهيم - عليه السلام - والعرب ليس كلهم معذورًا، ولا يُعد من أهل الفترة على ما هو معروف أنَّهم يُعذرون ويُمتحنون في عرصات القيامة، فمثلًا عمرو بن عامر الخزاعي، الذي قال فيه النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((يجر قُصْبَه في النَّار))، كان أول من سيب السوائب"[3]، قُصْبه؛ أي: أمعاءه، فهو أول من بدَّل دين إبراهيم - عليه السلام - وهو الذي نَقَلَ التماثيل من النَّصارى في الشام إلى الكعبة، وزيد بن عمْرو بن نفيل والد سعيد بن زيد - رضي الله عنه - "أحد العشرة المبشرين بالجنة"، كان يلقب بمُحْيِي الموؤودة، وأخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - أنَّه يبعث يوم القيامة أُمَّة واحدة.
فهذان نموذجان عن رجلين كانا في الجاهليَّة، لكن لم يدرجا في لائحة أهل الفترة، وبالجملة فالجاهليَّة كفترة زمنية هذه سبقت الإسلام، أمَّا الجاهلية كخُلق، فهذا موجود في أمة النبي - عليه الصلاة والسلام - فمعاوية يقول: "يا رسول الله، إنِّي حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منَّا رجالًا يأتون الكهان، قال: ((فلا تأتهم))، قال: ومنَّا رجال يتطيرون، قال: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم))، قال: قلت: ومنا رجال يخطون، قال: ((كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك))، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - نهى عن هذه الأمور الثلاثة، لكن تنوعت إجابته في النَّهي.
فمنه نَهيٌ صريح، ونهي خفيف، ونهي عن طريق الإيماء والإشارة، وهذا التفاوُت يدل على خطورة المسألة، والنهي الصريح الجازم في قول معاوية هو: "وإن منا رجالًا يأتون الكهان، قال: ((فلا تأتهم))، وإنَّما كان نهيًا جازمًا واضحًا؛ لأنَّ الكاهن هو الذي يدَّعي معرفة الغيبيَّات، وما يكون في المستقبل، وهذا من جملة الغيب، فكأنَّ هذا الكاهن ينازع الله - تعالى - مَعرفة الغَيْب، ولأنَّ الكهان يتلقفون ما يُلقيه الجنِّيُّ من بعض كلام الحقِّ، فيقع تغرير شديد عند الخلق بهذه الكلمة التي يخطفها الجني.
ولقد علمنا من رسول الله - عليه الصلاة والسلام - كيف يعرف الكُهَّان بعض الغيبيات التي هي من جملة الحق؛ كما جاء عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "سأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ناس عن الكهَّان، فقال: ((ليس بشيء))، فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثوننا أحيانًا بشيء، فيكون حقًّا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تلك الكلمة من الحق، يخطفها الجني، فيُقرُّها في أذن وليِّه، فيخلطون معها مائة كذبة))"[4].
لذلك؛ فكثير من النَّاس في هذه الأمة يعطون آذانهم للكهنة، وأكثر مَن يتعاطى ذلك أصحاب الأموال وأصحاب المناصب؛ لأنَّ علاقةَ مثل هؤلاء بالدِّين - إلا ما رحم ربي - واهية، فهم يلجؤون إلى الكهنة والسَّحرة، ويصدقونهم بلا مُعارضة، فهؤلاء الكهنة الذين يدعون معرفة المستقبل يأخذون الكلمة الحق، ثم يخلطونها بمائة كذبة؛ كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلَّم - فإذا أخبر الكاهن بشيء من الكلمة التي يتلقَّفها من الجني، يقع في رُوع الناس أنَّه يعلم الغيب، فكُلَّما أراد أنْ يسافر شخص ما - مثلًا - أتى الكاهن، فيبتزُّه ويدَّعي علم الغيب، وهو لا يعلم شيئًا على الحقيقة، وإنَّما يوهم هذا السائل أنَّه يعرف.
وهذا هو الشرك بالله؛ لذلك حسم النبي - عليه الصلاة والسلام - هذا الأمر فقال: ((فلا تأتهم))، وللكهنة طرق في تثبيت ما يقولون ويرتكبون بما يُسمَّى بالسجع - السجع: هو النثر المُقَفَّى - فهم كانوا يسجعون، كما في حديث عبدالله بن عمر، قال: "ما سمعت عُمَرَ لشيء قطُّ يقول: إنِّي لأظنُّه كذا، إلَّا كان كما يظن، بينما عُمَرُ جالس؛ إذ مَرَّ به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني، أو إنَّ هذا على دينه في الجاهليَّة، أو لقد كان كاهِنَهم، عليَّ الرجلَ، فدُعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيتُ كاليوم اسْتُقْبِلَ به رجلٌ مُسلم، قال: فإنِّي أعزم عليك إلا ما أخبرتني، قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يومًا في السوق، جاءتني أعرف فيها الفَزَعَ، فقالت: ألم تَرَ الجن وإِبْلاسَهَا، ويَأْسَهَا من بعد إِنْكَاسِهَا، ولُحُوقها بالقِلاص وأحلاسِها، قال عمر: صدق، بينما أنا عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ، لم أسمع صارخًا قطُّ أشدَّ صوتًا منه يقول: يا جَلِيح، أَمْرٌ نَجِيح، رجل فَصيح، يقول: لا إله إلا أنت، فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتَّى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، فقمت، فما نَشِبْنَا أن قيل: هذا نبي"[5].
كما كان الكهنة يحكمون بين الشُّعراء قديمًا؛ لخبرتهم بالألفاظ، فهذه صفات تُميِّز الكهنة.
ولارتكاب الكُهَّان كل هذا الشرك العظيم حَرَّم النبي - عليه الصلاة والسلام - حُلْوَانَ الكاهن، وحَرَّمَ أجر الكهانة؛ كما في حديث ابن مَسعود البدري، قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن ال***، ومهر البَغِيِّ، وحُلْوَانِ الكاهن"[6]، وفيه أيضًا إجماع من العلماء أن حلوان الكاهن حرام، وأبو بكر - رضي الله عنه - فعل شيئًا هو معفوٌّ عنه إذا لم يكُن للمرء به علم؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهليَّة، وما أُحْسِن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني، فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده، فقاء كلَّ شيء في بطنه"[7].
حتَّى قال ابن سيرين - رحمه الله -: "لا أعلم أحدًا استقاءَ من طعام حرام غَيْرَ أبي بكر"، وأهل العلم يجمعون على أنَّ المرء إذا أكل طعامًا حرامًا وهو لا يدري، أو أكل طعامًا فيه شبهة وهو لا يدري، فليس عليه أن يستقيء من هذا؛ بل مضى ذلك وهو مَعْفُوٌّ عنه، غير أنَّ قانون الورع يختلف عن قانون الجواز "الحلال والحرام"، فما يكون جائزًا عند الذين يقفون على الجواز - ولا حرج عليهم في ذلك - لا يكون كذلك عند أهل الورع، فالحاصل أنَّ الكهانة حرام، والكاهن مُرتكب لحرام كبير باتِّفاق العُلماء، وإذا عُلم أن رجلًا يتكهَّن، فينبغي لمن له سلطان عليه أنْ يَمنعه من ذلك، فإنْ لم ينتهِ أنزل به العُقُوبة الردعيَّة؛ لذلك حسم النبي - عليه الصَّلاة والسلام - الأمر مع مُعاوية بنهي جازم: ((فلا تأتِهم))، بخلاف المسألة الثانية؛ لمَّا قال له: "ومنَّا رجال يتطيرون"، قال: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم)).
والفرق جليٌّ بين هذا الجواب وبين مسألة الكهانة، وأصل الطيرة منسوبة إلى الطير؛ حيثُ كانت العرب - إذا أراد أحدٌ منهم السفر - يراقبون السَّانح - صفة للطائر إذا طار يمينًا - والبارح - صفة للطائر إذا طار يسارًا - فكانوا يتطيَّرون، والمرء يتساءل: ما فِقْه الطيران يمينًا أو شمالًا؟ وما هو العلم الكامن تحت هذه النَّظرية؟ والرسول - صلى الله عليه وسلم - أجابَ عن هذا كلِّه بأنه ليس شيئًا حقيقيًّا بقوله: "ذاك شيء يجدونه في صُدُورهم"؛ أي: لا حقيقة له، فإذا رأى المرء شيئًا من هذا ((فلا يصدنهم))؛ أي: ما يجده في صدره أن يُتمم حاجته، فنهى النَّبي - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك نهيًا رفيقًا، وكان أهل الجاهلية يتطيرون أشدَّ ما يكون التطير في ثلاثة أشياء: المرأة، والدار، والفرس؛ كما جاء عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا عدوى ولا طيرة، إنَّما الشُّؤم في ثلاث: في الفرس، والمرأة، والدار))[8].
وإنَّما قيل: الشُّؤم في هذه الأشياء؛ لكثرة مُلابسة الرجل امرأته وداره وفرسه، فهي أكثر الأشياء التي تُصاحب الرجل، فقد يصادف قَدَرَ الله أن تكون المرأةُ على غير ما يريد الرَّجل فيتأذَّى بها، فكلما حدث له شر، أناطه بالمرأة؛ بسبب استمرار أذاها، وهي ليست لها علاقة بذلك الشر، وكانت العرب تقول: "رُبَّ مَمْلول لا يُستطاع فراقه"؛ لذلك قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((الطيرة شركٌ، الطيرة شركٌ - ثلاثًا - وما منَّا إلَّا، ولكنَّ اللَّهَ يذهبه بالتوكُّل"[9]؛ أي: ما منَّا من أحد إلَّا ويخطر عليه، ويقع له تشاؤم من شيء ما، لكنَّ الموحد إذا مضى، وتوكَّل على الله، ينقضي الأمر.
وعن أنس بن مالك قال: "قال رجل: يا رسول اللَّه، إنا كُنَّا في دار كثيرٌ فيها عددُنا، وكثيرٌ فيها أموالنا، فتحوَّلنا إلى دار أخرى، فقلَّ فيها عددُنا، وقلَّت فيها أموالُنا، فقال رسول اللَّه - صلى اللّه عليه وسلم -: ((ذروها ذميمةً))[10]؛ أي: اخرجوا من هذه الدَّار، وهذا ليس فيه إثبات للشُّؤم، ولكن لما صادف قَدَرَ الله قِلَّةُ عددهم، وقلة مالهم، من باب سدِّ الذريعة وحسم الأمر، قال النبي - عليه الصلاة والسلام - له: ((اخرج))؛ لأنَّ الرجل سيعتقد أن الدار مشؤومة، فيصرف الأمر في ذلك لغير الله، فيقع في الشرك.
وندب النبي بدلًا من هذا إلى الفأْل، والصحابة التبس عليهم، فاستفهموا ما الفأْل؟ فأجاب النبي - عليه الصلاة والسلام - موضحًا هذا التفاؤل: ((لا طيرة، وخيرها الفأل))، قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: ((الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم))[11].
لذلك كان - عليه الصلاة والسلام - عندما يريد أن يخرج لبعض حوائجه، يُحب أن يسمع: يا نجيح، ويا راشد، والاسمان مشتقان من النجاح والرُّشد، والمرء ينشرح صدره بسماع مثل هذا الكلام، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يندب إلى اختيار الاسم الصالح والفاضل، غَيْرَ أن كثيرًا من الناس خالفوا هَدْي النبي - عليه الصلاة والسلام - في اختيار أسماءٍ لأولادهم، بل أصبحنا نسمع أسماءً غريبة الشكل، وكل هذا الحرص على اختيار الاسم؛ لأنه قد يُنفر، والعرب قديمًا - حقًّا - أنَّها كانت تختار أسماءً منفرة، لكن كان لهم نظر في ذلك، فقالوا: "نسمي موالينا لنا، ونسمي أولادنا لأعدائنا".
ومن باب الطرائف ما يُروى عن ثابت بن جابر أو "تأبط شرًّا" أنَّه لقيه رجل من ثقيف، وقال له: بم تغلب الرجال يا ثابت، وأنا كما أراك دميمًا وضئيلًا؟ قال: باسمي، ساعة ألقى الرجل، فأقول له: أنا تأبَّط شرًّا، فينخلع قلبه، فآخذُ منه ما أريد، قال له: بهذا فقط، فأجاب، قال: فقط، فسكت الثقفي قليلًا، وقال له: هل تبيعني اسمك؟ قال: بم؟ قال: باسمي وبحُلَّتي، فخلع ثابت طِمريه (ثياب بالية)، ولبس حلة الثقفي، وقال له: أنت من اليوم تأبَّط شرًّا، وأنا أبو وهب (كنية الثقفي)، ثم قال تأبطَّ شرًّا يخاطب زوجة هذا الأحمق:
أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أنَّ حَلِيلَهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَأَبَّطَ شَرًّا وَاكْتَنَيْتُ أَبَا وَهْبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَهَبْهُ تَسَمَّى اسْمِي وَسَمَّانِيَ اسْمَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَأَيْنَ لَهُ صَبْرِي عَلَى مُعْظَمِ الْخَطْبِ؟! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَيْنَ لَهُ بَأْسٌ كَبَأْسِي وَسَوْرَتِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَيْنَ لَهُ فِي كُلِّ فَادِحَةٍ قَلْبِي؟! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فمُمكن لبعض الأسماء أن تكونَ سيئة ومُنفرة؛ لذا قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((لا تُسَمِّيَنَّ غلامَك يسارًا، ولا رباحًا، ولا أفلحَ، فإنَّك تقول: أثَمَّ هو؟ فلا يكون، فيقول: لا))[12].
فيقع الكلام في أذن المستمع وقوعًا مستبشعًا، والمسألة ليست لها علاقة بنيّة المتكلم، فهو فقط يسأل عن إنسان، فيُمكن أن يتشاءم به، وقد يصادف قَدَر الله هذه اللحظة، فتقع مشكلة أو فتنة، فيقع في الشرك جرَّاء تشاؤمه، ولأن المسألة دقيقة قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم))، فالإنسان إذا تطير بشيء عليه أن يَمضي ويتوكَّل على الله - تعالى - وقدره - عزَّ وجلَّ - ماضٍ لا مَحالة، فلا يربط بين هذا التشاؤم والتطير بالواقع، لكنَّه قد يصادف القدر، فمن باب سد الذَّريعة نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فنعوذ بالله أن نشرك به ونحن نعلم، ونستغفره لما يعلم ولا نعلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي القدير.
يُتبع إن شاء الله.
[1] رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصَّلاة، ونسخ ما كان من إباحة، ح ر: 33.
[2] رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، ح ر: 30.
[3] رواه البخاري في كتاب التفسير، باب: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ﴾ [المائدة: 103]، ح ر: 4347.
[4] رواه البخاري في كتاب الطب، باب الكهانة، ح ر 5429.
[5] رواه البخاري في كتاب فضائل الصَّحابة، باب: إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ح ر: 3653.
[6] رواه البخاري في كتاب الطب، باب الكهانة، ح ر: 5428.
[7] رواه البخاري في كتاب فضائل الصَّحابة، باب: أيام الجاهليَّة، ح ر: 3629.
[8] رواه البخاري في كتاب الطب، باب لا عدوى، ح ر: 5438.
[9] رواه أبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة، ح ر: 3910.
[10] رواه أبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة، ح ر: 3924.
[11] رواه البخاري في كتاب الطب، باب الفأل، ح ر: 5423.
[12] رواه مسلم في كتاب الآداب، باب: كراهة التسمية بالأسماء القبيحة، وبنافع ونحوه، ح ر: 12.