رحيل المشاعر
06-20-2021, 08:40 PM
صور من تعليم القرآن في الأزمات
روى الإمام مسلم في مقدمة "صحيحه" عن يحيى بن أبي كثير قوله: "لا يُستطاع العلمُ براحة الجسم".
وهذه كلمةٌ جليلةٌ تَختصر كثيرًا من البيان، وهي نصيحةٌ ثمينةٌ تبيّن الطريق الأمثل لمن يريد تحصيل العلوم والفنون والآداب.
والطريقُ متعبٌ للمُتعلم الحريص، وللمعلِّم المُخلص على حدٍّ سواء.
ولو أردنا أن نستعرضَ ما بذله كلٌّ من المتعلِّم الحريص والمعلِّم المُخلص لطال بنا الكلام، وحسبُنا أنْ نأخذَ نماذج دالة، وأمثلةً خاصةً بتعليم (القرآن) وتعلُّمه.
ولنا في الصدر الأول الأسوةُ والقدوةُ، ومِن ذلك مثلًا ما تحمَّله الصحابةُ الكرام في سبيل نشر القرآن وإسماعه لِمَن لم يسمَعْه وصَدَّ عنه، فحُرِمَ من هذا الخير العميم، والفضل العظيم.
ولننظرْ في هذا الخبر الجليل الذي رواه ابنُ هشام في كتابه "السيرة":
قال عروةُ بن الزبير: كان أول مَنْ جهرَ بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة (عبدالله بن مسعود) رضي الله عنه.
وذلك أنه اجتمع يومًا أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعتْ قريشٌ هذا (القرآن) يُجْهَرُ لها به قط، فمَنْ رجلٌ يُسمعهم إيّاه؟
فقال عبدالله بن مسعود: أنا.
قالوا: إنّا نخشاهم عليك، إنما نريدُ رجلًا له عشيرةٌ يمنعونه من القوم إنْ أرادوه بسوءٍ.
قال: دعوني فإنّ الله سيَمنعني.
فغدا ابنُ مسعود حتى أتى المَقامَ في وقت الضحى، وقريش جالسة في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم" رافعًا بها صوته ﴿ الرحمن علم القرآن ﴾.
ثم استقبلها يقرؤها، فتأمّلوه فجعلوا يقولون: ماذا قال؟ ثم قالوا: إنه ليتلو بعضَ ما جاء به محمدٌ، فقاموا إليه فجعلوا يَضربون في وجهه، وجَعلَ يقرأ حتى بلغَ منها ما شاءَ اللهُ أنْ يبلغ.
ثم انصرفَ إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه فقالوا له: هذا الذي خَشينا عليك؛ فقال: ما كان أعداءُ الله أهونَ عليَّ منهم الآن، ولئن شئتُم لأُغادينَّهُم بمثلها غدًا؛ قالوا: لا، حسبُك، قد أسمعتَهم ما يكرهون.
***
وهناك شاهدٌ آخر هو ما خاطرَ به (خَبّاب بن الأرَت) في تعليم اثنين من المسلمين القرآن في صدر الإسلام، وهما سعيد بن زيد وزوجته أخت عمر، ولنقرأ هذا الخبر الذي يحكي قصةَ إسلامِ عمر بن الخطاب:
عن أنس بن مالك قال: "خرج عمرُ متقلدَ السيف، فلقيه رجلٌ من بني زُهرة قال: أين تريد يا عمر؟
فقال: أريد أنْ أقتل محمدًا.
قال: وكيف تأمنُ في بني هاشم وبني زُهرة وقد قتلتَ محمدًا؟
فقال عمر: ما أراك إلا قد صبوتَ وتركتَ دينك الذي أنتَ عليه.
قال: أفلا أدلك على العَجب يا عمر؟ إنَّ ختَنك وأختَك قد صبوا وتركا دينَك الذي أنت عليه.
فمشى عمرُ غاضبًا متهددًا حتى أتاهما وعندهما رجلٌ من المهاجرين يُقال له: (خَبّاب). فلما سمع (خَبّاب) حسَّ عمر توارى في البيت، فدخلَ عليهما فقال: ما هذه الهينمة التي سمعتُها عندكم؟ - كانوا يقرؤون سورة طه-.
فقالا: لا شيء ما عدا حديثًا تَحدّثناه بيننا.
قال: فلعلكما قد صبوتما؟
فقال له ختَنُه: أرأيتَ يا عمر إنْ كان الحقُّ في غير دينك؟
فوثبَ عمرُ على ختَنه فوطِئه وَطأ شديدًا، فجاءتْ أختُه فدفعته عن زوجها فنفحَها بيده نفحةً فدمى وجهَها، فقالت -وهي غَضبى-: يا عمرُ أنْ كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله.
فلما يئس عمر قال: أعطوني هذا الكتابَ الذي عندكم فأقرأه. -وكان عمر يَقرأ الكتب- فقالت أختُه: إنك رجسٌ ولا يمسُّه إلا المطهرون فقمْ فاغتسلْ أو توضأ. فقام عمر فتوضأ ثم أخذ الكتابَ فقرأ (طه) حتى انتهى إلى قوله: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري). فقال عمر: دُلوني على محمد.
فلما سمعَ (خَبّاب) قولَ عمر خرج من البيت فقال: أبشرْ يا عمر فإني أرجو أن تكون دعوةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ليلةَ الخميس: اللهم أعزَّ الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام.
ثم قال (خَبّاب): إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا".
ومن الواضح أن (خَبّابًا) كان يُعلِّم أختَ عمر وزوجها القرآن سِرًّا خوفا من المشركين، وذلك حين كان رسولُ الله في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وهي مرحلةُ الدعوة السرية، وكان هذا التعليمُ مخاطرة، ولهذا اضطر أنْ يختفي حين دهمَ عمرُ البيت.
***
أمّا في العصر الحديث فمن المعلوم ما أصاب المسلمين في الدول التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي مِنْ عنَتٍ ورهَقٍ واضطهادٍ ومنعٍ للتعليم الديني.
يقول أحدُ شهود ذلك العصر:
"لقد اعتدنا على بناء منازل كبيرة تحوي قاعة كبيرة مفتوحة في الوسط، وكنا نقوم ببناء غرف عازلة للصوت على جوانب تلك القاعة، وكان هناك بابٌ سريٌّ يؤدي إلى خارج القاعة باتجاه هذه الغرف، حيث كنّا نقومُ بوضع منصة لعرض زجاجات الخمور، ونعلقُ صورًا للرئيس (لينين) وغيره على جدران القاعة، بالإضافة إلى شاشة تلفزيون وغيرها من المواد بالقرب من الجدار الذي يقع فيه البابُ السري.
وعندما كان أفراد الشرطة يدهموننا لتفتيش المنزل، لا يجدون شيئًا، لكنهم بالتأكيد يلاحظون زجاجات الخمر فيفترضون أنَّ معتقدات سكان المنزل تتوافق مع معتقداتهم، ويغادرون وهم يشعرون بالرضا، ولكنهم كانوا مخدوعين بما رأوه، فقد كانوا قاب قوسين أو أدنى مِن كشف الحقيقة، وعلى بعد أمتار قليلة مِن منصة زجاجات الخمر، كانت مجموعةٌ من الأطفال الأبرياء تقرأ القرآن.
كنا نحبسُ أنفسنا في تلك الغرف الصغيرة لمدة ستة أشهر في كل مرة، نعلّم أبناءنا الصغار كيفية تلاوة القرآن الكريم، إضافة إلى تعليمهم صحيح البخاري، وخارج حدود تلك الغرف الصغيرة كانت الرياحُ السوداءُ للشيوعية تعصفُ بضراوة ودون هوادة، ومع ذلك كانت كلماتُ الله ونبيه عليه الصلاة والسلام تُتلى وتُدرّس.
وجزى اللهُ علماءَ أمة الإسلام كلَّ خير؛ لتضحياتهم وتفانيهم في الحفاظ على إيمان المسلمين في المناطق التي كانت ترزح تحت وطأة القهر والظلم، إنّ مساهمتهم التي لا تُقدر بثمنٍ يجب أن تكون مُلهمة للمسلمين للالتزام بتعاليم الدين الإسلامي خلال الأوقات الصعبة"[1].
ويتحدَّثُ أحدُ المسلمين في قرقيزيا أنهم "كانوا يَجهدون غاية الجهد أنْ يُخفوا أي طريقٍ ومكانٍ يمكن أنْ يصل إليه الشيوعيون من تلك الأماكن التي يقرؤون فيها القرآن، هذه الحجرات يعمدون إلى إخفائها خلفَ زرائب البقر، ويضعون أمام الغُرف أكوامًا من العلف، وأكوامًا من التبن، وأكوامًا من القاذورات أحيانًا حتى لا يُهتدى إلى طريقها! وقد لا يصل الطالبُ إليها أحيانًا إلا بعد أنْ يمتلأ من الوسخ والنتن، كل ذلك اجتهادًا منهم في التخفي مِن أجل أنْ يقرأ أسطرًا من القرآن الكريم على شيخه، وهو قبل ذلك قد بذلَ جهدًا كبيرًا في تعلُّم حروف اللغة العربية.
وهذا مشهدٌ آخر وعبرةٌ أخرى: حتى يصل الطالبُ إلى هذه الحجرة، وخلف هذه القاذورات والوساخات؛ فإنه لا يأتيها إلا ليلًا، وفي الليالي التي يقلُّ فيها ضوءُ القمر حتى لا يُكتشف من الشرطة التي كانت تنتشرُ في الأزقة والطُرقات، ولقد تحدَّثَ أحدُ المدرِّسين أنَّ شيخَه حينما كان يتلقى القرآن عن شيخه كان يأتي إلى المكان فيمرُّ بالطريق ثلاث مراتٍ أو أربع، يترددُ يمنةً ويسرة ليتأكد في الأخير أنَّ الطريق لا يوجد فيه شرطي؛ مِن أجل أنْ يدخل خفيةً إلى أماكن تعليم القرآن، فإذا أرادَ أنْ يخرجَ احتاجَ مرةً أخرى إلى مثل هذه العملية -يتردد مرارًا وتكرارًا وفي آخر الليل قبل أن يطلع الفجر فيرى ويبصر- يبذل جهدًا كبيرًا مِن أجل أنْ لا يُرى، كل ذلك مِنْ أجل أنْ يحفظ بضعة أسطرٍ مِن كلام الله عز وجل"[2].
هذه بعضُ الصور والمشاهد عن تعليم القرآن في الأزمات، وهي تجعلنا نشعرُ بالنعمة العظيمة علينا إذ نتلقى القرآنَ في بلادنا ونحنُ في غاية الأمان والاطمئنان والراحة.
نسأل الله تعالى أنْ يديمَ علينا هذه النِّعم، وأنْ ينفعنا بالقرآن العظيم.
[1] مِنْ تقريرٍ في النت بعنوان: "كيف كان القرآن الكريم يُدرس سرًّا في الاتحاد السوفيتي".
[2] تُنظر خطبةٌ في النت بعنوان: "كنتُ في قرقيزيا".
روى الإمام مسلم في مقدمة "صحيحه" عن يحيى بن أبي كثير قوله: "لا يُستطاع العلمُ براحة الجسم".
وهذه كلمةٌ جليلةٌ تَختصر كثيرًا من البيان، وهي نصيحةٌ ثمينةٌ تبيّن الطريق الأمثل لمن يريد تحصيل العلوم والفنون والآداب.
والطريقُ متعبٌ للمُتعلم الحريص، وللمعلِّم المُخلص على حدٍّ سواء.
ولو أردنا أن نستعرضَ ما بذله كلٌّ من المتعلِّم الحريص والمعلِّم المُخلص لطال بنا الكلام، وحسبُنا أنْ نأخذَ نماذج دالة، وأمثلةً خاصةً بتعليم (القرآن) وتعلُّمه.
ولنا في الصدر الأول الأسوةُ والقدوةُ، ومِن ذلك مثلًا ما تحمَّله الصحابةُ الكرام في سبيل نشر القرآن وإسماعه لِمَن لم يسمَعْه وصَدَّ عنه، فحُرِمَ من هذا الخير العميم، والفضل العظيم.
ولننظرْ في هذا الخبر الجليل الذي رواه ابنُ هشام في كتابه "السيرة":
قال عروةُ بن الزبير: كان أول مَنْ جهرَ بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة (عبدالله بن مسعود) رضي الله عنه.
وذلك أنه اجتمع يومًا أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعتْ قريشٌ هذا (القرآن) يُجْهَرُ لها به قط، فمَنْ رجلٌ يُسمعهم إيّاه؟
فقال عبدالله بن مسعود: أنا.
قالوا: إنّا نخشاهم عليك، إنما نريدُ رجلًا له عشيرةٌ يمنعونه من القوم إنْ أرادوه بسوءٍ.
قال: دعوني فإنّ الله سيَمنعني.
فغدا ابنُ مسعود حتى أتى المَقامَ في وقت الضحى، وقريش جالسة في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم" رافعًا بها صوته ﴿ الرحمن علم القرآن ﴾.
ثم استقبلها يقرؤها، فتأمّلوه فجعلوا يقولون: ماذا قال؟ ثم قالوا: إنه ليتلو بعضَ ما جاء به محمدٌ، فقاموا إليه فجعلوا يَضربون في وجهه، وجَعلَ يقرأ حتى بلغَ منها ما شاءَ اللهُ أنْ يبلغ.
ثم انصرفَ إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه فقالوا له: هذا الذي خَشينا عليك؛ فقال: ما كان أعداءُ الله أهونَ عليَّ منهم الآن، ولئن شئتُم لأُغادينَّهُم بمثلها غدًا؛ قالوا: لا، حسبُك، قد أسمعتَهم ما يكرهون.
***
وهناك شاهدٌ آخر هو ما خاطرَ به (خَبّاب بن الأرَت) في تعليم اثنين من المسلمين القرآن في صدر الإسلام، وهما سعيد بن زيد وزوجته أخت عمر، ولنقرأ هذا الخبر الذي يحكي قصةَ إسلامِ عمر بن الخطاب:
عن أنس بن مالك قال: "خرج عمرُ متقلدَ السيف، فلقيه رجلٌ من بني زُهرة قال: أين تريد يا عمر؟
فقال: أريد أنْ أقتل محمدًا.
قال: وكيف تأمنُ في بني هاشم وبني زُهرة وقد قتلتَ محمدًا؟
فقال عمر: ما أراك إلا قد صبوتَ وتركتَ دينك الذي أنتَ عليه.
قال: أفلا أدلك على العَجب يا عمر؟ إنَّ ختَنك وأختَك قد صبوا وتركا دينَك الذي أنت عليه.
فمشى عمرُ غاضبًا متهددًا حتى أتاهما وعندهما رجلٌ من المهاجرين يُقال له: (خَبّاب). فلما سمع (خَبّاب) حسَّ عمر توارى في البيت، فدخلَ عليهما فقال: ما هذه الهينمة التي سمعتُها عندكم؟ - كانوا يقرؤون سورة طه-.
فقالا: لا شيء ما عدا حديثًا تَحدّثناه بيننا.
قال: فلعلكما قد صبوتما؟
فقال له ختَنُه: أرأيتَ يا عمر إنْ كان الحقُّ في غير دينك؟
فوثبَ عمرُ على ختَنه فوطِئه وَطأ شديدًا، فجاءتْ أختُه فدفعته عن زوجها فنفحَها بيده نفحةً فدمى وجهَها، فقالت -وهي غَضبى-: يا عمرُ أنْ كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله.
فلما يئس عمر قال: أعطوني هذا الكتابَ الذي عندكم فأقرأه. -وكان عمر يَقرأ الكتب- فقالت أختُه: إنك رجسٌ ولا يمسُّه إلا المطهرون فقمْ فاغتسلْ أو توضأ. فقام عمر فتوضأ ثم أخذ الكتابَ فقرأ (طه) حتى انتهى إلى قوله: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري). فقال عمر: دُلوني على محمد.
فلما سمعَ (خَبّاب) قولَ عمر خرج من البيت فقال: أبشرْ يا عمر فإني أرجو أن تكون دعوةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ليلةَ الخميس: اللهم أعزَّ الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام.
ثم قال (خَبّاب): إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا".
ومن الواضح أن (خَبّابًا) كان يُعلِّم أختَ عمر وزوجها القرآن سِرًّا خوفا من المشركين، وذلك حين كان رسولُ الله في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وهي مرحلةُ الدعوة السرية، وكان هذا التعليمُ مخاطرة، ولهذا اضطر أنْ يختفي حين دهمَ عمرُ البيت.
***
أمّا في العصر الحديث فمن المعلوم ما أصاب المسلمين في الدول التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي مِنْ عنَتٍ ورهَقٍ واضطهادٍ ومنعٍ للتعليم الديني.
يقول أحدُ شهود ذلك العصر:
"لقد اعتدنا على بناء منازل كبيرة تحوي قاعة كبيرة مفتوحة في الوسط، وكنا نقوم ببناء غرف عازلة للصوت على جوانب تلك القاعة، وكان هناك بابٌ سريٌّ يؤدي إلى خارج القاعة باتجاه هذه الغرف، حيث كنّا نقومُ بوضع منصة لعرض زجاجات الخمور، ونعلقُ صورًا للرئيس (لينين) وغيره على جدران القاعة، بالإضافة إلى شاشة تلفزيون وغيرها من المواد بالقرب من الجدار الذي يقع فيه البابُ السري.
وعندما كان أفراد الشرطة يدهموننا لتفتيش المنزل، لا يجدون شيئًا، لكنهم بالتأكيد يلاحظون زجاجات الخمر فيفترضون أنَّ معتقدات سكان المنزل تتوافق مع معتقداتهم، ويغادرون وهم يشعرون بالرضا، ولكنهم كانوا مخدوعين بما رأوه، فقد كانوا قاب قوسين أو أدنى مِن كشف الحقيقة، وعلى بعد أمتار قليلة مِن منصة زجاجات الخمر، كانت مجموعةٌ من الأطفال الأبرياء تقرأ القرآن.
كنا نحبسُ أنفسنا في تلك الغرف الصغيرة لمدة ستة أشهر في كل مرة، نعلّم أبناءنا الصغار كيفية تلاوة القرآن الكريم، إضافة إلى تعليمهم صحيح البخاري، وخارج حدود تلك الغرف الصغيرة كانت الرياحُ السوداءُ للشيوعية تعصفُ بضراوة ودون هوادة، ومع ذلك كانت كلماتُ الله ونبيه عليه الصلاة والسلام تُتلى وتُدرّس.
وجزى اللهُ علماءَ أمة الإسلام كلَّ خير؛ لتضحياتهم وتفانيهم في الحفاظ على إيمان المسلمين في المناطق التي كانت ترزح تحت وطأة القهر والظلم، إنّ مساهمتهم التي لا تُقدر بثمنٍ يجب أن تكون مُلهمة للمسلمين للالتزام بتعاليم الدين الإسلامي خلال الأوقات الصعبة"[1].
ويتحدَّثُ أحدُ المسلمين في قرقيزيا أنهم "كانوا يَجهدون غاية الجهد أنْ يُخفوا أي طريقٍ ومكانٍ يمكن أنْ يصل إليه الشيوعيون من تلك الأماكن التي يقرؤون فيها القرآن، هذه الحجرات يعمدون إلى إخفائها خلفَ زرائب البقر، ويضعون أمام الغُرف أكوامًا من العلف، وأكوامًا من التبن، وأكوامًا من القاذورات أحيانًا حتى لا يُهتدى إلى طريقها! وقد لا يصل الطالبُ إليها أحيانًا إلا بعد أنْ يمتلأ من الوسخ والنتن، كل ذلك اجتهادًا منهم في التخفي مِن أجل أنْ يقرأ أسطرًا من القرآن الكريم على شيخه، وهو قبل ذلك قد بذلَ جهدًا كبيرًا في تعلُّم حروف اللغة العربية.
وهذا مشهدٌ آخر وعبرةٌ أخرى: حتى يصل الطالبُ إلى هذه الحجرة، وخلف هذه القاذورات والوساخات؛ فإنه لا يأتيها إلا ليلًا، وفي الليالي التي يقلُّ فيها ضوءُ القمر حتى لا يُكتشف من الشرطة التي كانت تنتشرُ في الأزقة والطُرقات، ولقد تحدَّثَ أحدُ المدرِّسين أنَّ شيخَه حينما كان يتلقى القرآن عن شيخه كان يأتي إلى المكان فيمرُّ بالطريق ثلاث مراتٍ أو أربع، يترددُ يمنةً ويسرة ليتأكد في الأخير أنَّ الطريق لا يوجد فيه شرطي؛ مِن أجل أنْ يدخل خفيةً إلى أماكن تعليم القرآن، فإذا أرادَ أنْ يخرجَ احتاجَ مرةً أخرى إلى مثل هذه العملية -يتردد مرارًا وتكرارًا وفي آخر الليل قبل أن يطلع الفجر فيرى ويبصر- يبذل جهدًا كبيرًا مِن أجل أنْ لا يُرى، كل ذلك مِنْ أجل أنْ يحفظ بضعة أسطرٍ مِن كلام الله عز وجل"[2].
هذه بعضُ الصور والمشاهد عن تعليم القرآن في الأزمات، وهي تجعلنا نشعرُ بالنعمة العظيمة علينا إذ نتلقى القرآنَ في بلادنا ونحنُ في غاية الأمان والاطمئنان والراحة.
نسأل الله تعالى أنْ يديمَ علينا هذه النِّعم، وأنْ ينفعنا بالقرآن العظيم.
[1] مِنْ تقريرٍ في النت بعنوان: "كيف كان القرآن الكريم يُدرس سرًّا في الاتحاد السوفيتي".
[2] تُنظر خطبةٌ في النت بعنوان: "كنتُ في قرقيزيا".